مقدمة: نداء الألباب في وداع شهر الأنوار
مع أفول شمس رمضان، شهر الروحانية والعبادة المكثفة، يتردد في أسماعنا وقلوبنا نداءٌ قرآني خالد، يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليرسم لنا منهج حياةٍ مستدام. إنه النداء الموجه لأصحاب العقول النيرة، "أولي الألباب"، في خواتيم سورة آل عمران، كي لا تنطفئ جذوة الإيمان التي أوقدها رمضان، ولكيلا تقتصر العبادة على محراب المسجد أو لحظات الخلوة، بل لتمتد وتشمل الكون الفسيح والحياة العملية. يقول الحق تبارك وتعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ" (آل عمران: 190). فكيف نجعل من هذه الآية وما بعدها، بوصلة توجهنا نحو فهم أعمق وإيمان أرسخ وعملٍ أصلح بعد انقضاء الشهر الكريم؟
دعوة إلهية للتأمل: الكون كتاب مفتوح
تستهل الآية الكريمة بالتوكيد "إنّ"، لتلفت انتباهنا بقوة إلى مجالين عظيمين للتفكر: الكون المنظور ("خلق السماوات والأرض") والزمن المتحرك ("اختلاف الليل والنهار"). ليست هذه مجرد ظواهر طبيعية نألفها، بل هي "آيات"، أي علامات ودلائل ناطقة بعظمة الخالق وقدرته وحكمته ووحدانيته. ويوضح الإمام الطوسي رحمه الله في تفسيره "التبيان"، أن في هذه الآية "دلالة على وجوب النظر والفكر، والاعتبار بما يشاهد من الخلق والاستدلال على الله تعالى". فالتفكر هنا ليس ترفاً فكرياً بل هو واجبٌ على العقل السليم، وطريقٌ موصل للإيمان الراسخ، يردّ على من قد يكتفي بالتقليد أو بالخبر المجرد دون إعمال للعقل، لأن الكون نفسه شاهدٌ وبرهان.
رمضان والتفكر: لقاء الذكر والفكر
يزداد إحساسنا بـ "اختلاف الليل والنهار" في رمضان، ونحن نترقب الغروب للإفطار والفجر للإمساك. ويأتي وصف "أولي الألباب" في الآية التالية ليلامس حالنا في الشهر الفضيل: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..." (آل عمران: 191). إنها صورة المؤمن الذي يلازم الذكر في كل أحواله، وهو حالٌ تدربنا عليه في ليالي القيام وأيام الصيام. والأهم، أن هذا الذكر ليس غافلاً، بل هو ذكرٌ يفتح نوافذ "التفكر". صفاء الروح في رمضان يهيئ القلب والعقل لاستقبال رسائل الكون. ويشير الإمام ابن عطية رحمه الله في "المحرر الوجيز" إلى أن "اختلاف الليل والنهار" يشمل التعاقب المنتظم، والتفاوت في الطول والقصر، والتباين بين النور والظلام، وكلها "آيات" و"علامات" يدركها "أولو الألباب". وقد ميّز رحمه الله هؤلاء بأنهم أصحاب "ألباب التكليف"، أي العقول التي تدرك مسؤوليتها وتستخدمها للوصول إلى الحقائق الإيمانية الضرورية، لا مجرد "ألباب التجربة" العلمية البحتة، مما يجعل الدعوة للتفكر شاملة وفي متناول كل ساعٍ للمعرفة.
ثمرة التفكر: اليقين والخشية والدعاء
لا يتوقف التفكر عند حدود الدهشة العقلية، بل يثمر يقيناً قلبياً وعملاً إيمانياً. فالمتفكرون، بعد إعمال عقولهم في عجائب الخلق ونظامه المحكم، يصلون إلى إقرارٍ حتمي يهتفون به: "...رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران: 191). هذا هو المآل الطبيعي للتفكر الصحيح، الذي يقود إلى:
إدراك الغائية ونفي العبثية: اليقين بأن لهذا الكون هدفاً وحكمة، وأنه لم يُخلق لعباً.
التعظيم والتنزيه: إعلان تسبيح الله وتنزيهه عن أي نقص أو عبث (سبحانك).
الخشية وطلب النجاة: الشعور بعظمة الخالق يقود إلى خشيته وطلب الوقاية من عقابه، وهو دعاء يتجلى بإلحاح في ليالي رمضان الأخيرة.
ما بعد رمضان: من الاعتبار إلى التعمير
وهنا نصل إلى جوهر المقصد: ضرورة اصطحاب هذا التفكر بعد رمضان لتعمير الأرض وتعمير الإنسان خيراً. يشير العلامة ابن عاشور رحمه الله في "التحرير والتنوير" إلى أن هذه الآيات تمثل انتقالاً إلى "غرض عام" وهو "الاعتبار بخلق العوالم"، وأن مثل هذا الانتقال غالباً ما يأتي كإيذان بختام الكلام وتقديم الموعظة الأهم. هذا "الاعتبار" – وهو أخذ العبرة والعبور من الظاهر إلى الباطن – يجب أن يتحول إلى منهج حياةٍ يُترجم إلى واقع عملي:
فهم السنن وتوظيفها: التفكر في نظام الكون يعلمنا الدقة والتوازن والسببية (سنن الله). فهم هذه السنن يدفعنا للتعامل الرشيد مع موارد الأرض، والسعي في طلب العلم النافع لتسخيرها فيما ينفع الإنسان ويعمر الأرض.
استشعار المسؤولية والغاية: اليقين بأن الخلق ليس باطلاً يغرس فينا الشعور بالمسؤولية كـ "خلفاء" في الأرض، ويدفعنا للعمل الهادف والمتقن، ونبذ العبثية واللامبالاة.
ترجمة الإيمان إلى سلوك: تعظيم الخالق الذي ندركه من خلال آياته يقود إلى الالتزام بأوامره ونواهيه، وعلى رأسها العدل والإحسان والرحمة في التعامل مع "الإنسان" الذي هو أكرم مخلوقات الله وآياته.
العمل بإحسان: التفكر في إبداع الصنعة الإلهية يحفزنا على الإتقان والإحسان في كل ما نقوم به، ابتغاء مرضاة الله الذي يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه.
خاتمة: نحو جيل من "أولي الألباب" العاملين
إن الدعوة للتفكر في آيات آل عمران هذه ليست مجرد دعوة تأملية منعزلة أو موسمية، بل هي دعوة لتأسيس منهج حياة متكامل يربط بين الإيمان والعقل، وبين العبادة والعمل، وبين الخلوة الروحية والجلوة الكونية والاجتماعية. "الناهض" الحقيقي هو من يخرج من رمضان وقد ترسخت لديه عادة التفكر، لا ليبقى حبيس التأملات، بل ليحولها إلى طاقة بناءة تسهم في إصلاح نفسه ومجتمعه وعالمه، مستشعراً عظمة الخالق في كل ذرة من ذرات الكون، ساعياً لمرضاته في كل خطوة يخطوها على هذه الأرض. فلنجعل من التفكر في آيات الله المنظورة والمقروءة وقوداً دائماً لتعمير الأرض وتعمير الإنسان بالخير والحق والجمال، لنكون بحق من "أولي الألباب" الذين أثنى الله عليهم.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.