استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

تحذير قرآني ومنهج لتحصين القيادة والصف

مقدمة : خطر الداخل وأهمية البطانة

في مسيرة أي جماعة تسعى لهدف سامٍ، وفي قلب كل مشروع نهضوي يواجه تحديات خارجية، يبرز خطر داخلي قد يكون أشد فتكًا وتأثيرًا: خطر "البطانة" غير المأمونة. البطانة، وهم خاصة القائد ومستشاروه والمقربون منه والمؤتمنون على أسراره وخفايا أمره، بمثابة القلب النابض للقيادة وعقلها المدبر. صلاحهم صلاح للحركة كلها، وفسادهم أو خيانتهم قد تكون القاصمة. من أجل ذلك، يأتي التحذير الإلهي في سورة آل عمران واضحًا وصريحًا، ليرسم للمؤمنين، وخاصة قادتهم وناهضيهم، منهجًا وقائيًا صارمًا في اختيار هذه الدائرة المقربة، ويكشف بوضوح نفسي دقيق عن علامات بطانة السوء ودوافعها الخفية. يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" (آل عمران: 118).

أولاً: النهي الصريح ومعيار الاختيار: "لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ"

يبدأ التوجيه بنداء لأهل الإيمان، ليؤكد أن هذا الأمر هو مقتضى إيمانهم وشرط لسلامة جماعتهم. ثم يأتي النهي الحاسم: "لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ". البطانة، كما عرفها الشيخ أبو زهرة رحمه الله، هم "خاصته الذين يعرفون خفايا أمره، ومَنْ هم سره، ويستنبطون ما يخفى على غيرهم، فيعرفون موضع قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه...". والنهي هنا عن اتخاذ هؤلاء المقربين المؤتمنين على الأسرار من "دونكم"، أي من غير أهل ملتكم الصادقين، ومن غير أهل ولائكم الحقيقيين للمنهج والهدف. فالمعيار الأول والأهم في اختيار هذه الدائرة الحساسة هو صدق الانتماء والولاء، لأن التباين العقائدي أو العداء المستتر، كما قال أبو زهرة، "يوجب ألا تأمنوهم في خاصة أموركم". وهذا لا يعني بالضرورة مقاطعة الآخرين، فكما أشار السيد فضل الله: "ذلك لا يمنع من التعايش والتعاون في الأمور الأخرى التي يمكن فيها توفير بعض الحماية للأسرار"، ولكن دائرة البطانة والأسرار لها وضع خاص.

ثانياً: كشف الدوافع والعلامات: تشخيص بطانة السوء

لا تكتفي الآية بالنهي، بل تغوص في أعماق نفوس بطانة السوء لتكشف عن دوافعهم وعلاماتهم، مقدمة بذلك أدوات للتمييز والفراسة:

السعي الدائم للإفساد (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا): أي لا يقصّرون ولا يدخرون جهدًا في السعي لإيقاع الفساد والاضطراب والشر بكم. وكما قال أبو زهرة: "فلا اضطراب إلا ومعه فساده، ولا فساد إلا يترتب عليه اضطراب". وجودهم في موقع البطانة هو سعي مستمر للتخريب من الداخل.

محبة المشقة والضرر للمؤمنين (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ): قلوبهم تتمنى وترغب في وقوعكم في العنت والمشقة والشدة والهلاك. فكما قال السيد فضل الله: "فهم يحبّون لكم الوقوع في المشقة والعناء في حربكم وسلمكم، فلا يريدون لكم الراحة...". وهذا هو الدافع والباعث لسعيهم في الخبال.

ظهور البغضاء في فلتات اللسان (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ): مهما حاولوا التستر، فإن شدة حقدهم وبغضهم قد تفضحهم أحيانًا من خلال أقوالهم وفلتات ألسنتهم. وكما لاحظ ابن عطية، فهم قد تجاوزوا مرحلة الكتمان التام، ووصلوا لدرجة "فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه".

الحقد الدفين الأعظم (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ): وهذه هي الحقيقة الأخطر. فما يظهر من بغضائهم على ألسنتهم هو مجرد قمة جبل الجليد، أما الحقد والكيد والمكر الدفين في صدورهم فهو أكبر وأعظم بكثير.

ثالثاً: بناء الحصون الداخلية: نحو عمل مؤسسي منضبط

إن النهي عن اتخاذ بطانة السوء، مع كشف دوافعها وعلامات خطرها، لا يقف عند حدود التحذير السلبي، بل هو دعوة ضمنية قوية لبناء البديل الإيجابي وتأسيس عمل جماعي ومؤسسي محصن. فالقائد الناهض لا يعمل بمفرده، والأسرار والمواقع الحساسة لا يمكن أن تُترك شاغرة أو تُعهد لمن هب ودب. من هنا، فإن مقتضى العمل بهذه الآية هو السعي نحو:

بناء فريق موثوق (بطانة صالحة): البحث الجاد عن الكفاءات المخلصة التي تجتمع فيها الأمانة والقوة، والذين يشاركون القائد رؤيته وولاءه، ليكونوا عونًا وسندًا وحفظة للأسرار. فالقائد لا يعمل وحده، ونجاحه يعتمد بشكل كبير على فريقه المقرب.

وضع معايير دقيقة للاختيار: لا يُعقل أن يكون اختيار أعضاء هذه الدائرة المقربة عشوائيًا أو قائمًا على المجاملات في ظل هذا التحذير الإلهي. لا بد من وضع معايير واضحة وموضوعية تجمع بين الكفاءة العملية، والنزاهة الأخلاقية، والولاء الصادق للمنهج والهدف، لضمان اختيار الأنسب والأكثر أمانة.

تأسيس آليات للحماية والتحصين: يتطلب الأمر بناء آليات وإجراءات مؤسسية للحماية والتحصين؛ آليات للتحقق من أهلية الأفراد قبل إسناد المهام الحساسة لهم، وآليات لضبط مستويات الوصول للمعلومات والأسرار، وآليات للمتابعة والتقييم والمحاسبة، لمنع وصول غير المؤهلين أو المندسين إلى مواقع التأثير، ولضمان بقاء "باطن الأمر" آمنًا ومحصنًا.

رابعاً: الدعوة للعقل والحذر: "قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ"

تختم الآية بهذا التوجيه الحاسم الذي يربط بين فهم هذه الآيات والتعقل: "قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ". فالله قد أوضح الدلائل وكشف العلامات وفضح النوايا. والتعقل يقتضي الأخذ بهذه البينات. وكما قال ابن عطية، هذا ليس تشكيكًا في عقل المؤمنين، بل هو "هز للنفوس كما تقول: إن كنت رجلاً فافعل كذا وكذا". إنه حث وتحفيز لاستخدام العقل والبصيرة لاتخاذ الحيطة والحذر، وعدم السذاجة أو إحسان الظن في غير محله، فالإنسان العاقل، كما أشار السيد فضل الله، هو الذي "يدفع الضرر ويجلب النفع" ولا يلقي بنفسه في مواقع الهلاك باتخاذ بطانة سوء.

خاتمة: تحصين القيادة والصف أساس للنهضة

إن آية آل عمران هذه تقدم درسًا استراتيجيًا ومنهجًا وقائيًا لا غنى عنه لكل ناهض وقائد ومصلح، بل ولكل جماعة مؤمنة تسعى للحفاظ على كيانها وتحقيق أهدافها. إنها تؤكد على:

أهمية الدائرة المقربة (البطانة) وخطورة موقعها.

المعيار الأساسي للاختيار: الولاء الصادق والانتماء الحقيقي.

ضرورة الوعي والحذر والفراسة في التعامل مع الآخرين وكشف دوافعهم.

فضح علامات بطانة السوء ودوافعها الخفية.

الحاجة الماسة لبناء عمل مؤسسي منضبط بمعايير وآليات واضحة لاختيار البطانة الصالحة وتحصين الصف الداخلي.

ربط التعقل باتخاذ الحيطة وتجنب مواطن الخطر.

فالقيادة الواعية هي التي تحصن صفها الداخلي وتختار بطانتها بعناية وفق أسس متينة، لتنطلق بعد ذلك في مشروعها النهضوي بثقة وثبات. والحمد لله رب العالمين.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.