تأخذنا سورة الكهف في رحلة معرفية وروحية فريدة، بصحبة نبي الله موسى عليه السلام في طلبه للعلم من عبد صالح آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا. تبدأ هذه الرحلة بانطلاقة ذات دلالات عميقة: "فَانطَلَقَا" (الكهف: 71)، انطلاقة تحمل قوة الإرادة والشوق لطلب العلم، ونفيًا للاستغناء المعرفي، وسعيًا لكسر قيود المألوف. وما إن تبدأ الرحلة حتى نصطدم بالحدث الأول، المحير والمربك: خرق السفينة. مشهد يضع العقل والشريعة الظاهرة في مواجهة مباشرة مع فعل غامض، ويدعونا لنغوص في بحر الأسرار بحثًا عن الحكمة، متسلحين بمجداف الصبر والتأمل، ومتعلمين منهجًا للتعامل مع ما يغيب عنا علمه.
أولاً: الظاهر المربك: فعل الإفساد من العبد الصالح
يركب موسى ومعلمه السفينة، وإذا بالعبد الصالح يقدم على فعل صادم: "خَرَقَهَا" (الكهف: 71). في ظاهر الأمر، هذا فعل إتلاف لمال الغير، وتصرف لا يليق برجل وصفه الله بالرحمة والعلم. وتزداد غرابة الفعل عندما نعلم، كما فصلت الأحاديث ورواها الإمام القرطبي، أن أهل السفينة عرفوا العبد الصالح "فحَمَلوه بغيرِ نَوْلٍ"، أي مجانًا تكريمًا له. فكيف يقابل هذا الإحسان بالإساءة الظاهرة؟ وكيف يُقدم على خرق سفينة هي مصدر رزق "لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ" (الكهف: 79)، في عرض البحر، مما يعرضهم لخطر الغرق؟ إنه مشهد تتصادم فيه القيم الظاهرة: الرحمة المفترضة، وشكر المعروف، وحرمة المال، وضرورة حفظ النفس.
ثانياً: استنكار العقل والشريعة: صرخة موسى عليه السلام
أمام هذا المشهد، لم يتمالك موسى عليه السلام نفسه، فاندفع مستنكرًا: "قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا" (الكهف: 71). كان استنكاره صرخة العقل والمنطق والشريعة الظاهرة، وذلك طبيعي في ظل عدم إحاطته علمًا بالسبب الحقيقي وراء الفعل. فالعقل، كما أشار الإمام الماتريدي، يحكم بأن "الظاهر من الخرق أن يغرق في آخر الأمر". والشريعة التي يحملها موسى، كما دافع الإمام البقاعي، تأمر بإنكار المنكر فورًا، وتعتبر إتلاف مال المساكين وتعريض حياتهم للخطر أمرًا "إمرًا"، أي عظيمًا منكرًا شديدًا. لقد نسي موسى الشرط، وقد فسر الحديث الشريف ذلك بأنه "نسيان". ولكن البقاعي يرى أن قوة الأمر الشرعي بإنكار المنكر قد تكون هي التي أدهشته وأنسَته، بل إن واجب الإنكار الشرعي مقدم على الشرط الشخصي. ويضيف سيد قطب بعدًا نفسيًا مهمًا، وهو أن الإنسان قد يتصور الأمور نظريًا، لكن "عندما يصطدم بالتطبيق العملي... يستشعر له وقعا غير التصور النظري. فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد". فصدمة الواقع، مع عدم الإحاطة بالحكمة الخفية، هي التي دفعت موسى لهذا الاستنكار المبرر في ميزان الظاهر.
ثالثاً: ما وراء الظاهر: كشف الحكمة وتجلي الرحمة
لم يكن رد العبد الصالح تبريرًا مباشرًا، بل تذكيرًا بالعجز عن الصبر على ما لم يحط به علمًا، مما يؤكد وجود بُعد آخر للأمر. هذا البعد سيتكشف لاحقًا: "أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا" (الكهف: 79). هنا تتجلى الحكمة الباطنة: فالغاية لم تكن الإغراق، بل الحماية من ملك ظالم كان يصادر السفن الصالحة. والوسيلة كانت إحداث عيب بسيط يجعلها غير مرغوبة له، حفاظًا على أصل المال للمساكين. إنه تطبيق لمبدأ "ارتكاب أخف الضررين" بناءً على علم لدني خفي، فالخرق المؤلم كان بمثابة إجراء استباقي لحماية السفينة وأصحابها من مصير أسوأ.
رابعاً: دروس البصيرة ومنهج التعامل مع الخفاء
هذا المشهد الأول في رحلة موسى والعبد الصالح يقدم لنا دروسًا بليغة ومنهجًا عمليًا للتعامل مع ما يغيب عنا علمه:
تواضع المعرفة وقصور العلم البشري: إذا كان كليم الله موسى قد وقف حائرًا، فما أحرانا نحن بالتواضع! علمنا مهما اتسع يبقى محدودًا أمام علم الله المحيط. وكما قال العبد الصالح لموسى: "ما عِلمي وعِلمُك مِن عِلم اللهِ إلا مِثْلُ ما نَقَصَ هذا العصفورُ من هذا البحر".
تجاوز "سجن الظاهر": تعلمنا القصة أن لا نسجن أنفسنا في حدود ما تراه أعيننا وتحكم به عقولنا المباشرة. فالظاهر قد يكون خادعًا أو قشرة لحقيقة أعمق، والركون إليه يعيق الوصول للبصيرة.
الحاجة إلى "خرق" الظاهر للعلم: أحيانًا، لا نصل إلى الفهم العميق إلا بعد "إحداث ثقب في الظاهر". قد يكون هذا الثقب سؤالاً جريئًا، أو تجربة صادمة، أو ابتلاءً يكشف لنا ما لم نكن نراه. فطلب العلم الحقيقي يتطلب تجاوز السطح.
الدعوة للإحاطة علمًا، والصبر طريقها: تعلمنا القصة أنه عند مواجهة مواقف تبدو غير منطقية، فإن المطلوب ليس الحكم المتسرع، بل السعي للإحاطة علمًا بجوانب الموقف قدر الإمكان. ولأن هذا قد لا يتأتى فورًا، يأتي دور الصبر كمنهج عملي؛ الصبر الذي يتيح فرصة المتابعة والتأمل وانتظار انكشاف الحكمة، بدلاً من الاستعجال بالإنكار.
الرحمة الخفية: قد تأتي رحمة الله وتدبيره في صور تبدو مؤلمة في ظاهرها، ولكنها تحمل في طياتها خيرًا عظيمًا أو دفعًا لشر مستطير.
خاتمة: نحو استبصار أعمق وتطبيق عملي
إن قصة خرق السفينة في سورة الكهف هي دعوة مستمرة للاستبصار، ولتجاوز النظر السطحي إلى الغوص في أعماق المعاني والحكم. تعلمنا أن نوسع مداركنا لنفهم أن ما نراه من "عالم الشهادة" ليس كل شيء، وأن هناك "عالم غيب" وحكمة إلهية تدبر الأمور بعلم ورحمة، وأن تحول جزء من "الغيب النسبي" إلى "شهادة" بالنسبة لنا لا ينقص من علم الله المحيط شيئًا. فلنتعلم من موسى تواضعه في طلب العلم، ومن العبد الصالح حكمته في أفعاله، ولنسعَ لكسر قيود "سجن الظاهر". ولنتحلَّ بالصبر الذي يتيح لنا السعي للإحاطة علمًا بالأمور قبل إطلاق الأحكام، مدركين أن الحكمة قد تتكشف رويدًا رويدًا لمن صبر وتابع. مستعينين بالتفكر والتسليم لله رب العالمين، حتى نحدث "خرقًا" في جدران جهلنا النسبي، ونفتح نافذة للبصيرة تضيء لنا دروب الحياة. والحمد لله رب العالمين.
حسان الحميني،
والله الموفق.