مقدمة : فيضان المعلومات أم بناء المعنى؟ رحلة الإنسان نحو الوعي
تخيل للحظة أن تعيش في عالم بلا أسماء، بلا تصنيفات، بلا قدرة على الربط بين الأشياء المتشابهة أو فهم الأفكار المجردة. مجرد فيضان مستمر من الأحاسيس، والألوان، والأصوات، والروائح، والأحداث المتدفقة بلا توقف – مشهد يبدو أقرب إلى الفوضى المحيرة منه إلى الواقع المنظم الذي نألفه. كيف، إذن، نُضفي على هذا الواقع معنى؟ كيف نبني فهمنا له؟ وكيف نتفاعل معه بوعي وفعالية؟ إنها الرحلة الجوهرية للعقل البشري، رحلة فطرية نحو الفهم والمعرفة تشبه في جوهرها تلك التي خاضها عقل "حي بن يقظان" وهو يكتشف أسرار الوجود من حوله بمفرده.
تكمن الإجابة على هذا التحدي في أداة جوهرية يمتلكها العقل البشري، بل هي حجر الزاوية في وعينا وتفاعلنا مع الوجود: المفهوم (Concept). المفاهيم ليست مجرد كلمات في قاموس، بل هي المفاتيح التي نفتح بها أبواب الفهم، والبوابات التي نلج منها إلى ساحة الوعي المنظم. إنها اللبنات الأساسية التي نبني بها صرح أفكارنا، والعملة التي نتداول بها معارفنا، والعدسات التي من خلالها ندرك حقيقة ما حولنا. بل إن هذه القدرة على فهم العالم من خلال المفاهيم والتعبير عنها بالأسماء ليست مجرد آلية معرفية، بل هي صدى لذلك التكريم الإلهي الأول حين عُلِّم أبو البشر آدمُ الأسماءَ كلها (البقرة: 31)، إيذانًا بأهليته للاستخلاف وإعمار الأرض بالعلم والمعرفة.
ما هو المفهوم؟ "اعتقال" المعاني من الوجود والوحي
لكن، ما هو المفهوم في جوهره؟ إنه يتجاوز كونه مجرد تصنيف ذهني أو علامة لغوية. بالنظر إلى طبيعة عمل العقل كما يمكن أن نستلهم من دلالات لغوية وقرآنية عميقة، يمكننا رؤية تشكيل المفهوم كعملية نشطة يقوم فيها العقل بما يمكن تسميته "اعتقال المعاني".
إن عقولنا في تفاعل مستمر مع الوجود من حولنا؛ نتلقى عبر حواسنا سيلاً من المعلومات من "الآيات المنظورة" المبثوثة في الكون وفي أنفسنا، كما نتلقى المعاني الهادية من "الآيات المقروءة" في كتاب الله المسطور (الوحي). في خضم هذا التفاعل، يقوم العقل بدور فعال؛ فهو لا يستقبل بشكل سلبي فقط، بل "يعقل" – أي يربط ويضبط ويميز. إنه "يعتقل" أو يمسك بالأنماط المتكررة، والخصائص المشتركة، والجواهر الأساسية وسط سيل المدركات والتجارب والمعاني المتدفقة. هذا "الاعتقال" للمعنى هو عملية تجريد وتصنيف وربط، تنتج لنا تلك الوحدة الأساسية للفهم التي نسميها "المفهوم".
فالمفهوم، إذًا، هو ثمرة عملية "الاعتقال" هذه؛ إنه بنية ذهنية تمثل فئة من الأشياء، أو الأفكار، أو الصفات، أو العلاقات، بناءً على ما تم إدراكه وفهمه من قواسم مشتركة أو معانٍ جامعة، سواء كان مصدرها الحس والتجربة أو الوحي والهداية.
لماذا المفاهيم بهذه الأهمية الحاسمة؟
بدون هذه القدرة على "اعتقال المعاني" وتشكيل المفاهيم، يظل العالم – كما بدأنا – مجرد فوضى مربكة. إن بناء المفاهيم هو ما يسمح لنا بـ:
التنظيم: تجميع الكيانات المتشابهة تحت مظلة واحدة (فكل أشكال وأنواع "الكراسي" تندرج تحت مفهوم "الكرسي").
الفهم: إدراك جوهر الأشياء والأفكار، سواء كانت مادية ملموسة (مثل "الماء") أو مجردة (مثل "العدل").
التواصل: استخدام رموز لغوية مشتركة (الكلمات كأسماء للمفاهيم) للإشارة إليها، مما يتيح تبادل الأفكار المعقدة بفعالية، وهو ما ميز آدم على الملائكة.
التعلم والبناء المعرفي: ربط المعلومات الجديدة بالمفاهيم الموجودة لدينا، وتوسيع شبكتنا المعرفية.
التفكير والاستدلال: استخدام المفاهيم كأدوات للتحليل والمقارنة والاستنتاج وحل المشكلات.
التنبؤ والتعميم: تطبيق المعرفة المكتسبة من تجارب سابقة على مواقف جديدة بناءً على المفاهيم المشتركة.
الاستخلاف والإعمار: تمكين الإنسان من فهم العالم وتسخيره وإدارته وتطويره، تحقيقًا للغاية التي من أجلها كُرّم ومُنح هذه القدرة المعرفية الفريدة.
لمحة عن أنواع المفاهيم:
هذه المعاني التي "نعتقلها" ونحولها إلى مفاهيم تتنوع طبيعتها. فمنها ما يمثل أشياء مادية يمكننا إدراكها بحواسنا بشكل مباشر، مثل مفهوم "شجرة" أو "كتاب"، وتسمى المفاهيم الملموسة (Concrete Concepts). ومنها ما يمثل أفكارًا، أو صفات، أو علاقات لا يمكن لمسها أو رؤيتها، بل نفهمها بعقولنا ونشعر بها بوجداننا، مثل مفهوم "الحرية"، "السعادة"، "المسؤولية"، أو "السببية"، وتسمى المفاهيم المجردة (Abstract Concepts). وهناك تصنيفات أخرى سنتعرض لها لاحقًا، لكن هذا التمييز الأساسي يوضح لنا اتساع العالم الذي تساعدنا المفاهيم على فهمه وتنظيمه.
الوعي المفاهيمي :
إن الوعي بالمفاهيم، وبكيفية تشكلها عبر "اعتقال" المعاني من مصادرها المختلفة (الكون والوحي)، هو الخطوة الأولى نحو امتلاك تفكير واعٍ، نقدي، ومنظم. هذا المقال هو مجرد بداية لرحلتنا في استكشاف هذا العالم الجوهري، عالم المفاهيم الذي يمثل أساس وعينا البشري ومفتاح فهمنا للوجود وممارسة دورنا كخلفاء في الأرض. في المقالات التالية، سنتعمق أكثر في رحلة تشكيل المفاهيم، وأنواعها المختلفة، وديناميكياتها الداخلية، وتفاعلها مع جوانب أخرى من تجربتنا الإنسانية، وصولاً إلى دورها المحوري في تشكيل الفرد والثقافة والحضارة. فلنفتح معًا بوابات الوعي عبر مفاتيح الفهم: المفاهيم.
حسان الحميني