استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

مركز الذكر ودستور التحرر وتأهيل الإنسان لقيادة الكون

مقدمة: مركز الكون وقطب العبودية

لقد كرّم الله الإنسان تكريمًا عظيمًا، فجعله خليفة في أرضه، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، بل وأمر الملائكة بالسجود لأبيه آدم تكريمًا لهذا الجنس البشري. هذا الإنسان الذي هو "جرم صغير" ظاهريًا، قد "انطوى فيه العالم الأكبر" كما قيل، بما أودع الله فيه من عقل وروح وقدرة على التعلم والتأثير. ولكن هذا التكريم وهذا الاستخلاف وهذه المركزية في الكون ليست مطلقة أو عبثية، بل هي منوطة بتحقيق الغاية التي من أجلها خُلق: العبودية الاختيارية لله رب العالمين. ويأتي جوهر هذه العبودية ومفتاح تحقيق هذا التكريم في آية محورية هي قلب أم الكتاب ولباب الدين كله: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة: 5). فهذه الآية ليست مجرد دعاء، بل هي "عمود الذكر" الذي يقي من النسيان، ودستور التحرر الإنساني، والأداة التي تؤهل الإنسان للقيام بدوره القيادي في هذا الكون المسخر له.

أولاً: "إِيَّاكَ..." - بلاغة الحصر وجوهر التوحيد

إن تقديم المعمول "إياك" على الفعلين "نعبد" و"نستعين" هو مفتاح فهم الآية الأول. وكما أوضح أهل البلاغة والأصول، ومنهم ابن عطية والشنقيطي، فإن هذا التقديم يفيد الحصر والقصر والاختصاص.

"إِيَّاكَ نَعْبُدُ": معناها "لا نعبد إلا أنت". هو إقرار وتذلل وتحقيق للعبادة لله وحده، مع التبرؤ من كل معبود سواه، كما قال ابن عطية. إنها الترجمة العملية للركن الأول من كلمة التوحيد "لا إله" (النفي) كما بين الشنقيطي.

"وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ": معناها "لا نستعين إلا بك". هو إقرار بالافتقار التام إلى الله، وحصر الاستعانة الحقيقية به وحده في كل الأمور، مع التبرؤ من الاعتماد على أي قوة أخرى. وهذا هو الركن الثاني لكلمة التوحيد "إلا الله" (الإثبات).

هذا الحصر والقصر هو جوهر التوحيد الخالص، وهو الأساس الذي يعيد للإنسان بوصلته الصحيحة ويربطه مباشرة بمصدر وجوده وقوته وتكريمه.

ثانياً: "نَعْبُدُ" و "نَسْتَعِينُ" - حقيقة العبادة وضرورة الاستعانة

العبادة (نعبد): ليست مجرد طقوس، بل هي كما عرفها ابن عطية: "نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة". إنها تجمع بين العمل الظاهر (إقامة الشرع) والخضوع الباطن (التذلل والاستكانة). إنها منهج حياة شامل يوجه تفاعل الإنسان مع نفسه وخالقه والكون من حوله.

الاستعانة (نستعين): هي "نطلب العون منك في جميع أمورنا" كما قال ابن عطية. وهي اعتراف بالعجز الذاتي والفقر الإنساني، وطلب المدد والقوة والتوفيق من الله القادر الغني. وكما أوضح الشنقيطي، فإن حصر الاستعانة بالله نابع من حقيقة "أن الأمر كله بيده وحده، لا شريك له فيه."

الجمع بينهما: إن الجمع بين العبادة والاستعانة في آية واحدة هو تأكيد على التلازم التام بين الغاية (العبادة) والوسيلة (الاستعانة بالله). فلا قيام بحق العبودية والاستخلاف إلا بالاستعانة بالله، ولا تصح الاستعانة إلا لمن وجه وجهه لعبادة الله وحده. وكما أشار الشنقيطي، تقديم العبادة يدل على أن "لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة".

ثالثاً: "نحن" - روح الجماعة وتجسيد الاستخلاف

إن التعبير بصيغة الجمع "نحن" (نعبد، نستعينُ) يحمل دلالات تتجاوز الفرد إلى الأمة. فكما أشار الشيخ الخليلي حفظه الله، هي أدعى للقبول (بالتواضع والدخول في زمرة العابدين المستعينين)، وهي تأكيد على أن "الإِسلام دين وحدة واجتماع"، وتذكير دائم بواجب الترابط والأخوة. هذه الصيغة تؤكد أن مهمة العبادة والاستعانة، ومن ثم الاستخلاف وعمارة الأرض، هي مهمة جماعية تقوم بها الأمة كوحدة واحدة متجهة نحو ربها.

رابعاً: مركزية الإنسان وتأهيله بالذكر لقيادة الكون

إن تحقيق "إياك نعبد وإياك نستعين" هو ما يؤهل الإنسان للقيام بدوره المركزي الذي أراده الله له. فالله كرم الإنسان وسجدت له الملائكة إيذانًا بأهليته لحمل الأمانة وقيادة هذا الكون المسخر له. لكن الإنسان بطبيعته "نسي ولم نجد له عزما". فجاء "الذكر" (والقرآن هو الذكر المحفوظ، والفاتحة خلاصة خلاصته، و"إياك نعبد وإياك نستعين" هي مركز هذا الذكر) ليكون أداة تأهيل هذا الإنسان وتذكيره وإعادة بوصلته.

فكلما اقترب الإنسان من "مركز الذكر" (إياك نعبد وإياك نستعين)، كلما اقترب من تحقيق أسباب "تكريمه" الأصلي. فبمقدار ما نحقق منهما تكون أهليتنا للقيادة والريادة.

بالعبادة لله وحده يتحرر من كل عبودية أخرى (للأوهام، للنظم، للأشخاص)، ويستعيد كرامته الإنسانية، وهذا هو جوهر التحرر البشري كما رآه سيد قطب.
بالاستعانة بالله وحده يستمد القوة والعون اللازمين للقيام بمهمة الاستخلاف وعمارة الأرض بالحق، متجاوزًا ضعفه وعجزه الذاتي.

بالذكر والمعرفة المستمدة منه يكتسب البصيرة والحكمة اللازمة لقيادة هذا الكون المسخر وتوجيهه نحو الخير والصلاح، بدلاً من الإفساد فيه.

فالإنسان لا يقود الكون بقوته المجردة، بل بتأهيله بالذكر والهدى الذي يربطه بخالقه ويمكنه من فهم سننه وتسخير مخلوقاته وفق منهجه.

 دستور الحياة ومنهاج النهوض

إن آية "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" هي بحق "عمود الذكر" ومركز الدائرة التي يجب أن تدور حولها حياة المؤمن وحركة الأمة. هي دستور التوحيد، وإعلان التحرر، ومنهج الحياة المتكامل. وهي الأداة التي تؤهل الإنسان المكرم، بعد نسيانه وضعفه، ليستعيد أهليته ويقوم بدوره القيادي في هذا الكون المسخر له، ليس بقوته الذاتية، بل بعبوديته الخالصة لله واستعانته الصادقة به.
فعلى كل ناهض ومصلح أن يجعل من هذه الآية منطلقه وغايته، يرسخها في قلبه، ويدعو إليها، ويسعى لتجسيدها في واقع الأمة، لتعود إلى مركز تكريمها، وتقوم بأمانة استخلافها، سائرة على الصراط السوي بعبادة خالصة لله واستعانة دائمة به. والحمد لله رب العالمين.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.


تعليق:

بوركت ووفقت أستاذ حسان 
لعل وضع هذه الآية المركزية ،حسب وصفكم، في قلب الفاتحة،

ووضع الفاتحة نفسها في مقدمة الكتاب،
ثم وضع مقدمة الكتاب  ركنا في  كل صلاة،

كل ذلك يعزز مركزية الآية!!

أن تتلى في جماعة دوما!!
فلا يحتاج فرد من وسيلة ولا سبب إلا ومعه ممن يوفرهما!!

أو يدل عليهما!!
أو يسعى في تحقيقهما!!

فكيف يحتاجون أحدا آخر!!؟؟
إذ يحررون بعضهم بعضا بعد الصلاة!!

ويعاهدون ربهم فيها كل صلاة!!

أن :
(إياك نعبد ..وإياك نستعين)

لذلك لم تحفظ بصيغة الفرد البتة

اختياركم ملهم

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.