تتردد على أسماعنا وقلوبنا كثيرًا آيةٌ كريمةٌ تبعث على السكينة والطمأنينة: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: 286). إنها وعدٌ إلهي بالرحمة والعدل، وتأكيدٌ على أن تكاليف الخالق سبحانه لا تفوق طاقة المخلوق. لكن، وبينما يستشعر المؤمن في هذه الآية لطف الله ورأفته، يقع البعض، عن قصد أو غير قصد، في فخ تحويل هذا "الوسع" من مفهومٍ رحبٍ قابلٍ للتمدد والنمو، إلى سقفٍ جامدٍ يحدّ القدرات ويبرر القعود عن بلوغ معالي الأمور. فهل "الوسع" حقاً هو نهاية المطاف أم بداية الطريق نحو آفاق أرحب؟ يهدف هذا المقال إلى إعادة قراءة هذا المفهوم المحوري في ضوء آيات القرآن الكريم، لنحرر أنفسنا من قيود الوهم ونستعيد الثقة في الإمكانات الهائلة التي أودعها الله في الإنسان المكرم.
إشكالية السقف الوهمي:
إن اختزال "وسع" النفس في قدرٍ ثابت ومحدود مسبقًا هو فهمٌ قاصرٌ يحمل في طياته مخاطر جمة. فهو:
يُعطّل التوسع: يصبح مبررًا للتوقف عند أول عقبة، والاكتفاء بالقول "هذا وسعي" أو "هذا حدي"، بينما قد تكون هذه العقبة هي بداية منطقة التعلم والنمو التي تتطلب جهدًا إضافيًا لتوسيع المدارك والقدرات.
يُشجّع الركون إلى الضيق: يدفع الإنسان للبقاء أسير "منطقة الراحة"، خائفًا من استكشاف المجهول وتفعيل الطاقات الكامنة التي قد يفاجَأ هو نفسه بوجودها لو سعى لاكتشافها.
يتناقض مع روح الإسلام: ديننا الحنيف يحث على السعي المستمر، وطلب العلم "من المهد إلى اللحد"، والمجاهدة، والتنافس في الخيرات، وعمارة الأرض. كل هذه المفاهيم تفترض وتتطلب قدرة الإنسان على النمو والتطور وتجاوز ذاته.
"الوسع": مفهوم ديناميكي متجدد:
الفهم الصحيح لآية "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" لا يتعارض أبداً مع النمو والتوسع، بل يتكامل معه:
رحمة في أصل التكليف: الله تعالى برحمته وعلمه المحيط لا يطلب منك المستحيل بقدراتك المتاحة وقت التكليف. هذا يزيل الحرج والمشقة التي لا تُطاق.
الوسع قابل للنمو: قدرات الإنسان ليست جامدة. فما كان يبدو "فوق الوسع" بالأمس، قد يصبح في صميم "الوسع" اليوم بالتعلم والممارسة والإيمان والاستعانة بالله ومواجهة التحديات.
التكليف كحافز للتوسع: أحيانًا، قد يكون التكليف نفسه، الذي يبدو صعبًا ولكنه "في حدود الوسع الممكن"، هو الدافع الذي يحتاجه الإنسان ليكتشف وينمّي قدرات لم يكن يعلم بوجودها. فالله أعلم بنا من أنفسنا، ويعلم ما نطيقه وما يمكننا أن نصل إليه بالسعي والاجتهاد.
سياق الآية ودلالته: وليس من قبيل المصادفة أن تأتي هذه الآية العظيمة خاتمةً لسورة البقرة. فهذه السورة المدنية، التي أرست دعائم المجتمع المسلم، جاءت حافلةً بالتكاليف والتشريعات والأحكام في شتى مناحي الحياة (من عبادات ومعاملات وأحكام أسرة وجهاد وغيرها). فكان ختامها بهذه الآية بمثابة رسالة طمأنة جامعة بعد عرض هذه المهام الجليلة، وتأكيداً على أن هذه التكاليف، وإن بدت شاقة، لم تُشرع إلا وهي في حدود القدرة البشرية التي تتسع وتنمو بالاستجابة لأمر الله والسعي في طاعته.
الوسع والتكليف قرينان:
هذا يؤكد الاقتران الوثيق في المنظور القرآني بين التكليف والوسع؛ فمفهوم "الوسع" غالباً ما يُذكر في سياق ما يُطلب من الإنسان فعله أو تحمّله، مما يوحي بأن القدرة تُقاس وتُحدد وتتوسع في مواجهة المسؤولية الملقاة على عاتقه. ومثالٌ آخرُ واضحٌ على هذا الاقتران نجده في سياق الإنفاق على المطلقة، حيث يقول تعالى في سورة الطلاق: "لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا" (الطلاق: 7). هنا نجد ربطًا مباشرًا بين القدرة المالية ("سعة"، "ما آتاه الله") وبين التكليف بالإنفاق، مع التأكيد مجددًا على القاعدة الكلية "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا"، وهي صدىً واضح لـ "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا". هذا التكرار للمبدأ في سياقات تطبيقية مختلفة يؤكد أن "الوسع" ليس مجرد حالة نظرية، بل هو قدرة عملية تُستدعى وتُختبر وتنمو عند مواجهة تكاليف الحياة ومتطلباتها.
شواهد قرآنية على التوسع اللامحدود:
القرآن الكريم نفسه يقدم لنا الأدلة الدامغة على أن القدرة البشرية، حين تتصل بالله تعالى وتستمد العون منه، تصبح قابلة لتوسع لا يمكن وضع سقف له. ولننظر في آيتين كريمتين "أختين" في المعنى، توضحان هذه الحقيقة:
زيادة الهدى للمهتدين: يقول تعالى: "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد: 17). هنا، فعل بشري (الاهتداء بالسعي وقبول الحق) يقابله عطاء إلهي متجدد (زيادة الهدى). إذا كان الهدى نفسه - وهو نور وبصيرة وقدرة على الفهم والتمييز - يقبل الزيادة المستمرة من الله لمن يسعى إليه، فكيف يمكن لأحد أن يضع حدًا لهذه الزيادة الإلهية؟ إنها شهادة بأن القدرة الروحية والمعرفية ليست ثابتة، بل تتسع وتتعمق بفضل الله لمن يبذل "وسعه" في طلب الحق والاستقامة عليه.
تعدد السبل للمجاهدين: ويقول عز وجل: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت: 69). هنا، بذل أقصى الجهد (الجهاد في الله، وهو استخدام "الوسع" بل وتجاوزه أحيانًا طلبًا لمرضاة الله) يقابله وعد إلهي مؤكد بالهداية إلى "سُبُلَنَا" (بصيغة الجمع). لم يقل سبحانه "سبيلنا" بالمفرد، بل "سبلنا". وهذا الجمع يحمل دلالات عميقة:
التعدد والسعة: أمام المجاهد في سبيل الله تنفتح طرق متعددة ومتنوعة من الخير والفهم والعمل، لا طريق واحد ضيق.
التوسع المستمر: كل سبيل قد يؤدي إلى سبل أخرى، في عملية نمو وتوسع لا تتوقف ما دام الجهاد مستمرًا.
عطاء بلا حدود: بما أنها "سبل الله"، فهي نابعة من علمه وحكمته وفضله الذي لا نهاية له من المنظور البشري. فكيف يمكن وضع سقف لعطاء الله وهدايته لمن جاهد فيه؟
هاتان الآيتان الكريمتان تؤكدان أن العلاقة بين سعي العبد وعطاء الرب هي علاقة نمو وتوسع دائم. "وسعك" الذي تبدأ به هو نقطة الانطلاق، والله يعدك بالزيادة وفتح الآفاق إذا صدقت النية وبذلت الجهد.
خاتمة: نحو تحرير الإنسان المكرم:
إن الفهم الجامد لـمفهوم "الوسع" هو قيدٌ وهميٌ قد نكون ألفناه، وربما أسهم في الانتقاص من صورة الإنسان المكرم الذي كرّمه خالقه ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له تكريمًا. لقد حان الوقت لنحرر أنفسنا من هذا القيد، ومن وساوس الشيطان الذي يريد لنا اليأس والقعود والذلة، فيزين لنا العجز ويقنّعنا بالدونية.
"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" هي رسالة رحمة تبعث على الطمأنينة والثقة بعدل الله، وفي نفس الوقت هي شهادة ضمنية بأن ما كُلِّفنا به هو في نطاق قدراتنا الحالية أو الكامنة التي تحتاج إلى سعي لتفعيلها وتنميتها. وعندما نسعى ونجاهد، يأتي وعد الله الصادق: "زَادَهُمْ هُدًى"، و"لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا".
فلننطلق بثقة في الله، وبثقة في الإمكانات الهائلة التي أودعها فينا. لنجعل من "الوسع" أفقًا يتسع مع كل خطوة نحو الله، لا سقفًا يحبس طموحاتنا ويقيد أحلامنا. إن رحلة اكتشاف الذات وتنميتها في سبيل الله هي أعظم رحلة، وهي رحلة لا تعرف النهاية إلا بلقاء الله، وقد توسعت نفوسنا وامتلأت بالهدى، وسلكت بفضل الله سبل الخير التي لا تُحصى.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.