مقدمة:
ليست النهضة مجرد بناء عمران، أو تراكم معرفة، أو تحسن في الاقتصاد والسياسة؛ بل هي أولًا وأساسًا تحول في العقل والقيم. وهنا تتجلى عبقرية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حين بدأ مشروعه الحضاري العظيم بتحرير الإنسان من الداخل، وبتكوين عقلية جديدة ترى العالم بمنظار مختلف، وتتحرك فيه برؤية ورسالة ووعي.
لقد واجه النبي عقلية جامدة، ترسخت فيها التقاليد والقبلية والتبعية، فصاغ منها عقلًا ناقدًا، بصيرًا، حرًا، يحمل رسالة، ويصنع التغيير. وفي أقل من ربع قرن، تحوّل هذا الجيل من هامش التاريخ إلى صناعته.
فما هي ملامح هذه العقلية الجاهلية؟ وكيف عمل النبي على هدمها وبناء عقلية النهضة مكانها؟ وما المهارات والقيم التي رباها في أصحابه؟ وما الذي نحتاجه اليوم لإعادة بناء العقل المسلم ليستأنف دوره الحضاري؟
هذا المقال يحاول أن يجيب عن هذه الأسئلة المفصلية، ويستلهم من المنهج النبوي في بناء العقول خارطة طريق نحو نهضة حقيقية تبدأ من الداخل.
أولًا: العقلية قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم)
صفات العقلية الجاهلية:
• الجمود والتقليد: "إنا وجدنا آباءنا على أمة" (الزخرف: 23).
• القبلية والتعصب: الولاء للقبيلة لا للحق.
• السطحية في التفكير: غلبة العواطف والشهوات على العقل.
• فوضى القيم: الظلم، الجهل، وأكل أموال الناس بالباطل.
• الخوف من التغيير: مقاومة كل جديد يخالف الموروث.
ثانيًا: كيف بنى النبي (صلى الله عليه وسلم) عقلية النهضة؟
- 1. تغيير المرجعية:
• من العقل القبلي إلى العقل القرآني.
• "قل إنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي" (الأعراف: 203).
- 2. إحياء ملكة التفكير:
• استخدام السؤال والجدل البناء:
"قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (الزمر: 9).
- 3. تربية عقل النقد الواعي:
• رفض الانقياد الأعمى.
• "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" (محمد: 24).
- 4. بناء رؤية كونية جديدة:
• من عبادة الأصنام إلى التوحيد.
• من الدنيا إلى الآخرة.
• من الفردية إلى المسؤولية الجماعية.
ثالثًا: المهارات التي ربّى عليها النبي العقل النهضوي
• التفكير التأملي:
• التدبر في الكون والقرآن والحياة.
• مثال: دعوة إبراهيم في سورة الأنعام.
• الربط بين الأسباب والنتائج:
• "من يعمل سوءًا يجز به" (النساء: 123).
• ترسيخ سنة الله في المجتمعات.
• النقد والبصيرة:
• كشف زيف العادات الجاهلية.
• تعليم الصحابة التمييز بين الحق والباطل.
• الرؤية المستقبلية:
• الهجرة، بناء الدولة، التخطيط للفتح.
• النبي رأى أبعد من اللحظة.
• المبادرة والفاعلية:
• ليس الانتظار بل التحرك (أصحاب العقبة، الهجرة، بدر).
•
رابعًا: كيف نغير العقليات اليوم؟ (وفق المنهج النبوي)
• بناء الوعي القرآني (المرجعية العليا).
• كسر قيود التبعية والتقليد الأعمى.
• نشر فكر السؤال والتفكر والتدبر.
• تعليم مهارات النقد والبصيرة.
• ربط الإيمان بالعمل والنتائج.
• القدوة العملية: كما فعل النبي مع الصحابة مصعب، بلال، عمر...).
•
خامسًا: صفات ومهارات العقل النهضوي
التفكير النقدي والتحليلي......التوحيد والمرجعيه القرأنيه
حل المشكلات وصناعة البدائل.... البصيره والتدبر
المبادره وتحمل المسؤليه......الايجابيه والفاعليه
القياده والتأثير......... الاستقلال في التفكير
التخطيط واتخاذ القرار بناء على وعي......الرؤيه بعيده المدى
من يريد أن ينهض بأمّته لا بد أن يتحلّى بمنظومة قيمية قوية، لأنها تمثل البوصلة التي توجه فكره وسلوكه ومشروعه. ومن أهم هذه القيم:
• الإخلاص: أن تكون غايته رضا الله وخدمة أمته، لا طلب الشهرة أو المصلحة الشخصية.
• المسؤولية: الشعور العميق بالواجب تجاه واقع الأمة ومستقبلها، وعدم الهروب من حمل الأمانة.
• الصدق: الصدق في الرؤية، في العمل، في النقد، وفي التعامل مع الذات والآخرين.
• الحرية: التحرر من التبعية الفكرية والعاطفية، والقدرة على التفكير المستقل واتخاذ المواقف الواعية.
• العدل: إنصاف الناس، والوقوف مع الحق، سواء في المواقف الفردية أو المجتمعية.
• الرحمة: التعامل مع الأمة كجسد مريض بحاجة إلى علاج، لا كعدو بحاجة إلى جلد وتحقير.
• الهمة العالية: السعي الدؤوب، وعدم الرضا بالقليل أو الاكتفاء بردود الفعل.
• التواضع: قبول النقد، والانفتاح على أفكار الآخرين، وعدم احتكار الفهم أو الحقيقة.
• الوعي: فهم الواقع المحلي والعالمي، وتشخيص أسباب التخلف بعمق، لا بسطحية.
• العمل الجماعي: الإيمان بأن النهضة لا يصنعها فرد، بل أمة تتكامل جهودها وتتوحد رؤيتها.
خاتمة:
إن بناء عقلية النهضة ليس عملاً عشوائيًا، بل هو مشروع رسالي عميق بدأه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بتغيير المرجعية، وتحفيز ملكات التفكير، وبناء جيل يتسم بالبصيرة، والفاعلية، والرؤية. فقد انتقل بالناس من عقلية التبعية والجمود إلى عقلية القيادة والتجديد، وصنع بذلك أمة حملت مشعل الحضارة قرونًا طويلة.
واليوم، نحن بحاجة لإحياء هذا المنهج النبوي، وتطبيقه على أنفسنا ومجتمعاتنا، حتى نتحرر من قيود التخلف، ونستعيد دورنا في بناء الحضارة. فنهضتنا تبدأ من تغيير العقل، وتحريره بنور الوحي، وتمكينه من أدوات الفهم والتفكر والبصيرة.
فالعقل هو ميدان المعركة الأولى، ومنه تبدأ كل نهضة.
د.سامر الجنيدي_القدس