استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المنهج القرآني لحماية العقول وصيانة المجتمعات


مقدمة: صمام أمان للمجتمع المسلم

في سورة الحجرات، سورة الآداب الرفيعة والأخلاق الاجتماعية، تأتي آية محورية لتضع قاعدة ذهبية ومنهجًا وقائيًا لا غنى عنه لسلامة الفرد وصيانة المجتمع. إنها آية تعالج قضية حساسة وخطيرة، تمس صميم العلاقات الإنسانية، وتتعلق بكيفية التعامل مع الأخبار والمعلومات، خاصة في زمن تتسارع فيه وتيرة انتشارها وتتعدد مصادرها. إنها قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات: 6). هذه الآية ليست مجرد توجيه عابر، بل هي صمام أمان يحمي نسيج المجتمع من التمزق، ومنهج عمل للناهضين والقادة، ودعوة دائمة لتفعيل العقل والنقد والتروي في عالم يموج بالأخبار والمعلومات.

أولاً: النداء الإيماني وتحديد مصدر الخطر

يبدأ التوجيه بنداء لأهل الإيمان: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا"، ليؤكد أن التزام هذا المنهج هو مقتضى الإيمان وواجب على من ينتسب إليه، وأن في تطبيقه صلاحًا للمؤمنين أنفسهم ولمجتمعهم. ثم تحدد الآية مصدر الخطر المحتمل: "إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ". الفاسق، وهو الخارج عن حدود الشرع أو العدالة في النقل، هو "مظنة الكذب" كما قال سيد قطب رحمه الله، أو على الأقل مظنة عدم الدقة والتحري. وخبره، خاصة إذا كان "نبأ" ذا شأن وأهمية، يحمل في طياته خطرًا داهمًا على العلاقات والأعراض والمصالح. والقرآن هنا يقر بواقعية وجود هذه المصادر غير الموثوقة، وينبه المؤمنين لضرورة الحذر منها. وكما أشار البقاعي، فإن تنكير "فاسق" و "نبأ" يفيد العموم، أي "أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبَأ [ذي شأن] فتوقفوا فيه".

ثانياً: "فَتَبَيَّنُوا" - منهج التحقق و"فلتر" المعلومات

أمام هذا الخطر المحتمل، تأتي الاستجابة الواجبة والفورية: "فَتَبَيَّنُوا". هذه الكلمة هي جوهر المنهج القرآني في التعامل مع الأخبار المشبوهة. وقد قرئت أيضًا "فَتَثَبَّتُوا"، وكما قال الطبري رحمه الله: "هما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب". فالمطلوب هو التمهل، والتحقق، والتأكد، وعدم التسرع.
والتبيُّن ليس مجرد توقف سلبي، بل هو عملية نشطة ومنهج عملي. إنه، كما قال ابن عاشور، يعني "تبينوا الحق، أي من غير جهة ذلك الفاسق"، فخبر الفاسق لا يُعتمد عليه لإصدار حكم، بل يكون مجرد "داعياً إلى التتبع والتثبت". وهذا التتبع والتثبت يتطلب تفعيل عمليات عقلية ومنهجية عليا، كالتفكير النقدي وتفكيك الخطاب وتحليل المصادر والدوافع والسياقات. إنه بمثابة تشغيل "جهاز رشح للمعلومات (فلتر)" فعال، لا يقبل المعلومة كمسلمة، بل يخضعها للفحص الدقيق.
ومن اللطائف التي أشار إليها ابن القيم رحمه الله، أن الأمر بالتبيُّن لا يعني رد خبر الفاسق مطلقًا، فقد يصدق أحيانًا، ولكن الاعتماد يكون على "قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه"، إلا إذا كان فسقه من جهة الكذب المعتاد الذي يغلب على صدقه، فهنا يرد خبره. إنه منهج يجمع بين الحيطة والعدل.

ثالثاً: عواقب التسرع: إصابة الأبرياء والندم الموجع

لماذا كل هذا التأكيد على التبيُّن؟ تكشف الآية عن العواقب الوخيمة للتسرع والعمل بخبر الفاسق دون تحقق:
إصابة الأبرياء بجهالة: أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ. هذه هي الكارثة الاجتماعية والأخلاقية. فالتسرع قد يؤدي إلى إيقاع الأذى والظلم بقوم أبرياء، سواء كان ذلك باتهام باطل، أم حكم جائر، أم إثارة للفتنة. والسبب هو "الجهالة"، أي عدم العلم بحقيقة الأمر والتصرف بناءً على معلومة مغلوطة. وهذا يؤكد أن هدف التبيُّن ليس فقط رفع اللبس، بل "رفع الجهل" المحيط بالقضية للوصول إلى الحقيقة أو ما يقاربها.
الندم الحتمي: فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ. النتيجة النفسية والشرعية الحتمية لهذا الظلم الواقع بجهالة هي الندم الشديد. وكما قال ابن عاشور، الندم هنا "كناية عن الإثم في تلك الإصابة" الذي يوجب التوبة. وهو ندم موجع ومستمر، كما توحي عبارة "تصبحوا"، لأنه ندم على حق أُضيع، أو عرض أُهين، أو علاقة قُطعت، أو فتنة أُججت، وكلها أمور يصعب تداركها بعد وقوعها.

رابعاً: دروس للناهض وصيانة للمجتمع

تقدم هذه الآية العظيمة دروسًا ومنهجًا لا غنى عنه، خاصة للناهضين والقادة والمصلحين، ولكل أفراد المجتمع:
التثبت أساس العدل: لا حكم ولا موقف ولا قرار يؤثر على الآخرين إلا بعد التبيُّن والتحقق والوصول لليقين أو غلبة الظن القوية.
الحذر من الشائعات: الوعي بخطورة الشائعات والأخبار المغلوطة ودورها في هدم المجتمعات وتمزيق العلاقات.
المسؤولية الفردية والجماعية: كل فرد مسؤول عن الكلمة التي ينقلها أو يصدقها أو يبني عليها موقفًا. والمجتمع مسؤول عن إيجاد آليات ومؤسسات للتبيُّن والتحقق في زمن الانفجار المعلوماتي.
التحكم في الانفعالات: عدم التسرع في ردود الأفعال بناءً على أخبار غير موثوقة، خاصة في حالات الغضب أو الاستثارة، كما نبه الإمام الشافعي، فالغضب يقلل التثبت ويغير العقل.
الأصل هو الثقة، والاستثناء هو التبيُّن: مع أهمية التبيُّن في خبر الفاسق، يبقى الأصل في الجماعة المسلمة هو الثقة وحسن الظن، كما أشار سيد قطب، حتى لا تشل حركة المجتمع. فالتبيُّن يُلجأ إليه عند وجود سبب معتبر.

خاتمة : التبيُّن.. ستر للحمة المجتمع

إن الأمر بالتبيُّن في سورة الحجرات هو بحق "ستر للحمة المجتمع ألا تفكك ويصيبها التهتك". إنه المنهج القرآني الذي يحمي العقول من التضليل، والقلوب من الضغائن، والعلاقات من التمزق، والمجتمع من الفتن. فعلى كل مؤمن، وخاصة من كان في موقع التأثير والقيادة، أن يتخذ من "التبيُّن" منهجًا راسخًا، ومن "التفكير النقدي" أداة دائمة، حماية لنفسه من الندم، وحفاظًا على حقوق إخوانه وأعراضهم، وصيانة لوحدة مجتمعه وتماسكه. والحمد لله رب العالمين.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.