استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

"وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي": نبذ الاستغناء والاستبداد في مدرسة القيادة الموسوية

مقدمة: القائد بين الكمال البشري والحاجة الإنسانية

في رحاب قصص الأنبياء، تتجلى نماذج القيادة الربانية بأبهى صورها، مقدمة دروسًا خالدة لمن يسعى للنهوض بمجتمعه والسير به على "الصراط السوي". ومن أروع هذه النماذج، ما يقدمه لنا القرآن الكريم على لسان نبي الله موسى عليه السلام، كليم الرحمن وأحد أولي العزم، في لحظة تكليف إلهي عظيمة ومواجهة تحدٍ جسيم. ففي الوقت الذي قد يُتوقع فيه من قائد بمثل هذا المقام استعراضٌ للقوة أو اكتفاءٌ ذاتي، يفاجئنا موسى عليه السلام بطلب يكشف عن قمة التواضع، وعمق فهمه لطبيعة المهمة، وإدراكه لأهمية العمل الجماعي، نابذًا بذلك كل معاني الاستغناء والاستبداد. إنه قوله لربه: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ" (القصص: 34). فما هي الدروس القيادية التي يقدمها هذا الطلب المتواضع؟ وكيف يساهم فهمه في بناء شخصية "الناهض" القادر على حمل أمانة الاستخلاف؟

أولاً: الاعتراف بالحاجة ونبذ الاستغناء

أول ما يلفت النظر في طلب موسى عليه السلام هو اعترافه الصريح بوجود ميزة لدى أخيه تفوق ما لديه في جانب محدد: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا". هذا الاعتراف من نبي من أولي العزم ليس دليل ضعف، بل هو قمة القوة والتواضع ونفي للاستغناء المذموم. إنه إدراك واعٍ بأن الكمال المطلق لله وحده، وأن الإنسان، مهما علا قدره، يبقى محتاجًا للآخرين، وأن التكامل بين القدرات هو سبيل النجاح. المستبد والمستغني لا يعترف أبدًا بنقص فيه أو بفضل لغيره، أما القائد الرباني فيرى الأمور على حقيقتها، ويعترف بالحاجة دون تردد. فالشعور بالحاجة للآخر هو قمة الإنسانية، بينما الشعور بالاستغناء هو بوابة الكبر والاستبداد.

ثانياً: طلب الشراكة وتأسيس العمل الجماعي

لم يقف موسى عند حدود الاعتراف، بل بنى عليه طلبًا عمليًا: "فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي". إنه يطلب شريكًا، ومعينًا (رِدْءًا أي عونًا، كما فسر الطبري)، ومساندًا في هذه المهمة الشاقة. هذا الطلب هو تجسيد لروح العمل الجماعي ونقيض لروح التفرد والاستبداد. فالناهض الحقيقي يدرك أن المهام الكبرى لا تنجز بجهود فردية، وأن بناء الفريق والاستعانة بالكفاءات هو أساس النجاح. وكما لاحظ البقاعي، فإن اختيار هارون كان لأنه جمع وصفي الكفاية (الفصاحة) و الشفقة (الأخوة)، فالقائد يبحث عمن يجمع بين القدرة والولاء.

ثالثاً: فقه الواقع وتحديد الاحتياجات بدقة

يكشف طلب موسى عن وعي عميق بطبيعة المهمة ومتطلباتها، أو ما يمكن تسميته "فقه الواقع وفقه الاحتياجات". لقد أدرك أن مواجهة فرعون وملئه ليست مجرد استعراض للقوة، بل هي بالأساس معركة بيان وحجة وإقناع. لذا، حدد الحاجة بدقة: الفصاحة والقدرة على البيان. يقول الطبري في معنى يُصَدِّقُنِي: "أي يبين لهم عني ما أخاطبهم به". ويضيف البقاعي توضيحًا أعمق بأن دور هارون هو "أن يلخص بفصاحته ما قلته وبينته، ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً، فيكون - مع تصديقه لي بنفسه - سبباً في تصديق غيره لي". فالقائد الناهض لا يطلب المساعدة بشكل عام، بل يحلل الواقع، ويحدد الاحتياجات الدقيقة لمشروعه، ويبحث عن الكفاءات القادرة على سد هذه الاحتياجات بفاعلية.

رابعاً: التركيز على "المشروع" لا على "الأنا"

كان الدافع وراء طلب موسى هو الحرص على نجاح "المشروع" الإلهي، لا إبراز ذاته. الخوف الذي عبر عنه: "إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ" هو خوف على الرسالة من التكذيب، وليس خوفًا شخصيًا محضًا. وكما قال الطبري: "إني أخاف أن لا يصدقون على قولي لهم إني أرسلت إليكم". هذا التركيز على الهدف الأسمى هو ما دفع موسى لتجاوز أي اعتبار شخصي والبحث عن أفضل وسيلة لتحقيق الغاية، حتى لو كانت بالاعتراف بأفضلية أخيه في جانب معين والاستعانة به. فالناهض الحقيقي ينظر إلى حاجة المشروع لا إلى حاجته هو، ويسعى لتوظيف كل الطاقات المتاحة لخدمة الهدف العام.

خامساً: الغاية الأسمى: ذكر الله وعمارة الأرض

وفي سورة طه، يقدم موسى عليه السلام بعدًا أعمق لطلبه هذا، يتجاوز مجرد الحاجة الدنيوية للمهمة: "كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)". هذا يكشف أن الشراكة والعمل الجماعي ليسا فقط لتحقيق النجاح في مواجهة التحديات الدنيوية، بل هما أيضًا وسيلة لزيادة القرب من الله وتحقيق عبودية وذكر أكثر. فالجماعة أقوى على الطاعة والثبات من الفرد، وعمل الفريق المتعاون له أثر مضاعف روحيًا وعمليًا. وهذا يؤكد المفهوم الشامل للعبادة في الإسلام، فكل جهد يبذله الناهض في عمارة الأرض وإصلاح شؤون الناس وفق أمر الله، إذا اقترن بالنية الصالحة والزاد الروحي من الذكر والعبادة، فهو عبادة لله وتحقيق لمقصد الاستخلاف.

خاتمة: نموذج للقائد الناهض

إن طلب موسى عليه السلام إشراك أخيه هارون في الرسالة هو مدرسة متكاملة في القيادة الرشيدة والعمل الجماعي الفعال، ونبذ لآفات الاستغناء والاستبداد التي تقصم ظهر العمل الجماعي وتعطل القدرات وتفوت الفرص. يعلمنا هذا الموقف، خاصة وأنه صادر عن نبي من أولي العزم، دروسًا لا غنى عنها لكل ناهض وقائد:
  • التواضع والاعتراف بالحاجة للآخرين.
  • أهمية بناء الفريق والاستفادة من تكامل القدرات.
  • فقه الواقع وتحديد احتياجات المشروع بدقة.
  • التركيز على الهدف وتجاوز الاعتبارات الشخصية.
  • الجمع بين العمل الدنيوي والغاية الأخروية، فالجهد في عمارة الأرض بنية صالحة هو عبادة.
فليكن هذا النموذج الموسوي نبراسًا لكل ساعٍ للنهوض بمجتمعه، مدركًا أنه بحاجة لإخوانه، مستثمرًا لطاقاتهم، متواضعًا لربه، مركزًا على غايته، ساعيًا لتحقيق العبودية لله في كل شؤون الحياة. والحمد لله رب العالمين.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.