استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

حكيم الأمة... الطبيب الذي تحتاجه النهضة


في طريق الأمم نحو النهضة، لا يمكن فصل التقدّم العلمي والتقني عن البعد الإنساني والأخلاقي. ولا يُمكن لأمة أن تنهض إذا فقدت رموزها أدوارهم الحقيقية، وتحوّلوا إلى مجرد أدوات إدارية لا روح فيها. وفي مقدمة هؤلاء الرموز يأتي الطبيب، أو كما كان يُلقّب في زمنٍ مضى: "الحكيم".
تأمل لحظة نداء أهل الشام للطبيب بـ"يا حكيم"، تجد فيها عمقًا حضاريًا وإنسانيًا. هذه التسمية ليست مجرد مجاز أو لقب شعبي، بل تعبير عن وعي ثقافي يرى في الطبيب أكثر من مجرد ممارس للمهنة، بل إنسانًا يحمل الحكمة، ويوازن بين الجسد والروح، بين العلم والرحمة، بين المهارة والضمير.
لكننا اليوم نشهد تراجعًا مؤلمًا لهذا المعنى. الطبيب أصبح رقمًا في ملفات الموظفين، مجرد "مقدّم خدمة" تُقاس قيمته بعدد المرضى الذين يراهم في الساعة، وبكمية الفواتير التي يُصدرها، لا بعمق الأثر الذي يتركه في قلوب الناس وأرواحهم. والسؤال الذي يفرض نفسه: من الذي جرّد الطبيب من إنسانيته؟ ومن الذي نزع عن "الحكيم" حكمته؟
قد يكون النظام المادي الذي اجتاح العالم، وقد يكون ضغط الإدارات الصحية التي حوّلت المهنة إلى منظومة بيروقراطية جامدة. وقد يكون المجتمع الذي لم يعد يُعلي من شأن الأخلاق والرحمة كما ينبغي. لكن في نهاية المطاف، يبقى الطبيب نفسه مسؤولًا عن استعادة مكانته، واسترداد رسالته.

نهضة الأمة تبدأ من استعادة مفهوم "الحكيم".

ذلك الطبيب الذي لا يرى المريض مجرد حالة مرضية، بل إنسانًا له ظروفه، ومحيطه، وتاريخه، ومشاعره. الحكيم الذي يعرف أن وصفة الدواء لا تكتمل إلا بابتسامة، وأن العلاج لا يبدأ بالإبرة، بل بالكلمة الطيبة، والإنصات الحقيقي.
ولكي نُعدّ هذا "الحكيم"، نحن بحاجة إلى إصلاح جذري في منظومة التعليم الطبي. فكتب التشريح والدواء مهمة، لكنها لا تكفي. نحتاج إلى مناهج تغرس في الطبيب مهارات التواصل، وفهم النفس البشرية، والإدراك الاجتماعي، والإحساس الجمالي، والذوق الإنساني. نحتاج إلى أن يتعلم الطبيب الشعر كما يتعلم علم الخلايا، وأن يقرأ في الأدب كما يقرأ في الجراحة.
بل نحتاج إلى "عيادات تعليمية"، لا تعلّم فقط مهارات الحقن والعمليات، بل مهارات التعاطف، والصبر، والتقدير، والرحمة. نحتاج إلى مستشفيات لا تُخرّج فقط استشاريين، بل تُخرّج "حكماء".
إن الطبيب في مشروع النهضة لا يُمكن أن يُختزل في مهنيته فقط، بل يجب أن يكون صاحب دور اجتماعي وثقافي وتربوي. فكل مريض يتعامل معه هو نافذة للتأثير، وكل لقاء مع الناس فرصة لبناء الثقة وإعادة الاعتبار للعلم والحكمة.
وفي المقابل، لا بد من التأكيد أن إنسانية الطبيب لا تتناقض مع المهنيّة، بل تكملها. فحياة الناس ليست ساحة تجارب للأفكار غير المنضبطة. هناك أصول وضوابط لا يمكن التهاون فيها. لكن المهنية دون روح، تُنتج طبيبًا آليًا فاقدًا للدفء، كما أن الروح دون ضوابط تُنتج فوضى خطيرة.
النهضة التي نحلم بها، لا تقوم إلا على أكتاف حكماء في كل مجال.
في التعليم، نحتاج المعلم الحكيم. في الإدارة، نحتاج القائد الحكيم. وفي الطب، نحتاج الطبيب الحكيم.
فالحكمة هي الجسر الذي يربط بين العلم والعمل، بين المعرفة والتأثير، بين التخصص والنهضة.
وفي النهاية، إذا أردنا أن ننهض كأمة، فلنُعيد تعريف الطبيب في وعينا، ولنُعِد إلى المهنة قدسيتها ورمزيتها.
لنُعلّم طلاب الطب كيف يكونون حكماء لا تقنيين فقط،
ولنُطالب مؤسساتنا الصحية أن تضع الروح قبل النظام، والرحمة قبل الربح،
ولنُعِدّ جيلًا جديدًا من الأطباء لا يُعالج فقط... بل يُداوي.



د.سامر الجنيدي_القدس

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.