قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].
تُعَدُّ هذه الآية من أجمع الآيات القرآنية التي تُبرز الأسس التي يقوم عليها المجتمع المسلم، والضمانات التي تحفظ تماسكه وقوته وفاعليته. وقد جاء فيها التركيز على مبدأ "الولاء" الذي يُعتبر حجر الزاوية في بناء اللحمة الاجتماعية للأمة المسلمة. سنتدبر في هذا المقال جوانب متعددة من هذه الآية، مستنيرين بأقوال المفسرين عبر العصور المختلفة.
سياق الآية والمقابلة مع صفات المنافقين
لفهم الآية فهمًا عميقًا، ينبغي النظر إلى سياقها ضمن سورة التوبة. يقول ابن عطية الأندلسي : "لما فرغ من ذكر المنافقين بالأشياء التي ينبغي أن تصرف عن النفاق وتنهى عنه، عقَّب ذلك بذكر المؤمنين بالأشياء التي ترغِّب في الإيمان وتنشِّط إليه تلطُّفًا منه تعالى بعباده لا رب غيره، وذُكرت هنا «الولاية» إذ لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم ولا يدعو بعضهم لبعض، وكان المراد هنا الولاية في الله خاصة."
هذا السياق يُبرز أهمية المقابلة بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين، وهو ما أشار إليه سيد قطب بقوله:
"إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، لتقابل من صفات المنافقين: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان اللّه وقبض الأيدي.. وإن رحمة اللّه للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار."
فالقرآن الكريم يعرض النموذجين المتقابلين: نموذج المجتمع المؤمن المتماسك، ونموذج المجتمع المنافق المفكك، ليكون الاختيار واضحًا أمام المسلمين.
الولاء : جوهر التماسك الاجتماعي في مجتمع يشمل المؤمنين والمؤمنات
تبدأ الآية بتأسيس مبدأ الولاء بين المؤمنين والمؤمنات: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، وهذه الولاية تتجاوز العلاقات النفعية المعتادة إلى علاقة عميقة قائمة على أساس الإيمان.
ومن المهم ملاحظة أن الآية الكريمة تبدأ بذكر المؤمنين والمؤمنات معًا، مما يؤكد أن المجتمع الإسلامي ليس مجتمعًا ذكوريًا، بل هو مجتمع متكامل يشمل الرجال والنساء على حد سواء. فالولاية البينية تضم المؤمنات كما تضم المؤمنين، والمسؤولية الاجتماعية تقع على عاتق الجميع، كلٌّ حسب موقعه وقدراته وإمكاناته.
يوضح الإمام القشيري عمق هذه العلاقة بقوله:
"يُعين بعضُهم بعضًا على الطاعات، ويتواصَوْن بينهم بترك المحظورات؛ فَتَحَابُّهم في الله، وقيامُهم بحقِّ الله، وصحبتُهم لله، وعداوتُهم لأجْلِ الله؛ تركوا حظوظَهم لحقِّ الله؛ وآثروا على هواهم رِضاءَ الله. أولئك الذين عَصَمَهم اللهُ في الحالِ، وسيرحمهم في المآل."
فالولاء - كما يصفه القشيري - ليس مجرد تعاون سطحي، بل هو منظومة متكاملة من القيم الروحية والأخلاقية: التحابب في الله، التناصح، تقديم حق الله على حظوظ النفس، إيثار رضاء الله على الهوى. وهذه المنظومة هي التي تصنع الفارق بين تماسك المجتمع المسلم وتفكك غيره من المجتمعات.
المجتمع المسلم : جسد واحد متكامل
من أجمل التشبيهات التي أوردها المفسرون للولاء بين المسلمين، ما ذكره البقاعي في تفسيره :
"ثم بين ولايتهم بأنهم يد واحدة على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر."
هذا التشبيه النبوي الذي استلهمه البقاعي، يجسد حقيقة التكافل الاجتماعي في أعمق صوره، ويُبرز أن المجتمع المسلم ليس مجرد تجميع للأفراد، بل هو كيان عضوي متكامل، تربط بين أجزائه روابط قوية من التعاطف والتكافل والتعاون.
وهذه الصورة للمجتمع المسلم تتجلى في تعاونهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يقول البقاعي:
"يأمرون أي كلهم على وجه التعاضد والتناصر بالمعروف وهو كل ما عرفه الشرع وأجازه وينهون أي كذلك عن المنكر لا يحابون أحدًا."
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مسؤولية فردية، بل هو مسؤولية جماعية يقوم بها المجتمع كله "على وجه التعاضد والتناصر"، وبغير محاباة لأحد، وهذا ضمان لاستقامة المجتمع واستمرار صلاحه.
دور الناهض في الولاية البينية وأثره في التماسك المجتمعي
إن المجتمع الإسلامي يعتمد في قوته وتماسكه على وجود أفراد ناهضين بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والناهض هو الفرد الذي يحمل همّ المجتمع ويتحرك بفاعلية لتحقيق القيم والمبادئ التي تقوم عليها الولاية البينية.
ويتعدد دور الناهض في المجتمع المسلم ليشمل:
- التوعية والتثقيف : حيث يقوم بنشر الوعي بالقيم الإسلامية والمفاهيم الشرعية الصحيحة.
- الإصلاح والتغيير : من خلال السعي لإصلاح الاختلالات الاجتماعية والأخلاقية.
- التنمية والبناء : عبر المساهمة في بناء المؤسسات الاجتماعية والخيرية التي تخدم المجتمع.
- الحماية والدفاع : بالوقوف في وجه التيارات المنحرفة والأفكار الهدامة.
والناهض ليس بالضرورة ذكرًا، بل قد يكون رجلاً أو امرأة، فالمؤمنات مشمولات بخطاب الولاية كما المؤمنين، وتاريخ الإسلام يشهد بنماذج مشرقة لنساء ناهضات كان لهن دور بارز في بناء المجتمع المسلم وحمايته.
أبعاد الولاء: من العبادة إلى الاقتصاد
إن مفهوم الولاء كما ورد في الآية ليس مفهومًا أحادي البعد، بل هو منظومة متكاملة تشمل جوانب متعددة من حياة المسلم
البعد العقدي : يتجلى في طاعة الله ورسوله، ويقول البقاعي: "وذلك إشارة إلى أن الطريق وعر والأمر شديد عسر، فالسائر مضطر إلى الرحمة."
البعد التعبدي : يظهر في إقامة الصلاة، وهي كما قال البقاعي: "يوجدونها على صفة تقتضي قيامها بجميع أركانها وشروطها وحدودها مراقبة لربهم واستعانة بذلك على جميع ما ينوبهم."
البعد الاقتصادي والاجتماعي : يتمثل في إيتاء الزكاة، ويشير إليه البقاعي بقوله: "مواساة منهم لفقرائهم صلة للخلائق بعد خدمة الخالق."
البعد الأخلاقي والقيمي : يتجسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما كما قال ابن عطية: "عبادة الله وتوحيده وكل ما اتبع ذلك" و"عبادة الأوثان وكل ما اتبع ذلك."
هذه الأبعاد المتكاملة هي التي تصنع الشخصية المسلمة المتوازنة، والمجتمع المسلم المتماسك.
رحمة الله للمؤمنين: في الدنيا قبل الآخرة
ختمت الآية بوعد إلهي للمؤمنين: ﴿أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وقد أشار سيد قطب إلى شمولية هذه الرحمة بقوله:
"والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها، إنما تكون في هذه الأرض أولًا ورحمة اللّه تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح. رحمة اللّه في اطمئنان القلب، وفي الاتصال باللّه، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث. ورحمة اللّه في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء اللّه."
فالرحمة هنا ليست مفهومًا أخرويًا فقط، بل هي واقع ملموس في الدنيا يتجلى في:
- ـ اطمئنان القلب والاتصال بالله على المستوى الفردي
- ـ صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها على المستوى الاجتماعي
- ـ الرعاية والحماية من الفتن والأحداث على المستوى السياسي
وهنا نلاحظ أن سيد قطب يؤكد على دور الناهض بالتكاليف، سواء كان رجلًا أو امرأة، في استحقاق رحمة الله، مما يُبرز أهمية النهوض بالمسؤولية الاجتماعية في المنظور الإسلامي.
الولاء والنصر: علاقة سببية
ختم سيد قطب تفسيره للآية بربط بين الولاء والنصر:
"إن تلك الصفات لهي التي وعد اللّه المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية: إن اللّه عزيز حكيم.. قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف، حكيم في تقدير النصر والعزة لها، لتصلح في الأرض، وتحرس كلمة اللّه بين العباد."
وفي نفس السياق، يقول البقاعي:
"وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين لا يزالون منصورين على كل مفسد ما داموا على هذه الخلال من الموالاة وما معها من حميد الخصال."
هنا يتجلى البعد السُّنَني في الآية، فالنصر والتمكين ليسا منحة مجانية، بل هما نتيجة لالتزام المؤمنين بهذه الصفات، ولا سيما الولاء فيما بينهم. وهذا النصر ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة "لتصلح في الأرض، وتحرس كلمة الله بين العباد" كما يقول سيد قطب.
إن تدبر الآية 71 من سورة التوبة يكشف لنا عن منظومة متكاملة لبناء المجتمع المسلم القوي المتماسك، قوامها الولاء بين المؤمنين والمؤمنات، المبني على أسس إيمانية عميقة، والمتجلي في ممارسات وسلوكيات يومية: الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، طاعة الله ورسوله.
وقد أظهر لنا تتبع أقوال المفسرين - من القشيري إلى ابن عطية إلى البقاعي إلى سيد قطب - أن هذه المنظومة ليست مثالية بعيدة المنال، بل هي واقع ممكن التحقق إذا التزم المسلمون والمسلمات بمقتضيات الإيمان، وأن ثمارها ليست مؤجلة للآخرة فقط، بل تتجلى في الدنيا رحمةً وسكينةً واطمئنانًا وتمكينًا ونصرًا.ولعل أمتنا اليوم بأمسّ الحاجة إلى استلهام هذه المعاني العميقة، واستعادة هذا الولاء الحقيقي، لا كشعار يُرفع فحسب، بل كمنظومة قيمية وسلوكية متكاملة تعيد بناء لحمة المجتمع المسلم، رجالًا ونساءً، وتستعيد دوره الحضاري المنشود من خلال نهوض كل فرد بمسؤولياته الاجتماعية والأخلاقية.
كتب حسان الحميني.
والله الموقف.