الربانيون (قادة العلم والإصلاح في ضوء القرآن)

يزخر القرآن الكريم بمنهجٍ متكامل للتربية والإصلاح، ويتجلى هذا المنهج في دعوته الصريحة إلى تكوين شخصية "الناهض الرباني". تُعد الآية الكريمة ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ اَنْ يُّوتِيَهُ اُ۬للَّهُ اُ۬لْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوٓءَةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداٗ لِّے مِن دُونِ اِ۬للَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّۧنَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ اَ۬لْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَۖ﴾ [آل عمران: 79] حجر الزاوية في فهم هذا المفهوم، حيث ترسم معالم الشخصية الربانية وتحدد مسؤولياتها الجسيمة.

يتعمق العلماء في استجلاء مفهوم "الربانيين" للكشف عن أبعاده الدقيقة. يقدم الإمام الطبري رحمه الله تفسيرًا يجمع بين الأصالة اللغوية والعمق المعنوي، فالربانيّ عنده ليس مجرد حامل للعلم، بل هو منظومة متكاملة من القيم والمعارف والممارسات. يرسم الطبري صورة الرباني ببراعة، فهو "المنسوب إلى الرّبّان: الذي يربّ الناس، ويصلح أمورهم، ويقوم بها". وهذا الإصلاح شامل يلامس جوهر الوجود الإنساني؛ فالرباني يربي بالعلم والحكمة، ويدعو إلى الخير، ويسعى لتحقيق مصالح الناس في دينهم ودنياهم.

ويضيف الإمام البيضاوي رحمه الله بعدًا لغويًا وعمليًا، موضحًا أن الرباني "منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون" للمبالغة، على غرار صيغ النسب المعروفة في العربية. ولا يقتصر الأمر على النسب اللغوي، بل يشير البيضاوي إلى أن الرباني هو "الكامل في العلم والعمل"، في تأكيد دقيق على أن الربانية منهج حياة متكامل يجمع بين المعرفة الراسخة والتطبيق الملتزم.

ومن صميم هذا المنهج التربوي، يكشف الإمام السمعاني رحمه الله عن أهمية التدرج العلمي. فالرباني، كما يصفه، "هو الذي رُبِّيَ بصغار العلم حتى بلغ كباره". هذا التدرج يحمل دلالات عميقة؛ فهو منهج يحترم مراحل النمو الفكري، ويؤمن بالتراكم المعرفي المنظم، ويجعل الصبر والمثابرة ركيزتين أساسيتين في عملية التعلم والتربية.

تتجاوز رسالة الرباني مجرد نقل المعلومات، كما يوضح الإمام الواحدي رحمه الله بقوله: "كونوا ربانيين: أي يقول كونوا معلمي الناس بعلمكم ودرسكم، علموا الناس وبينوا لهم". فالتعليم الرباني، إذن، هو عملية تربوية شاملة تهدف إلى  نشر العلم النافع الذي ينير العقول، وتوضيح الحقائق التي تزيل اللبس، وتبصير الأمة بمصالحها الحقيقية في ضوء الشرع، وتربية الأجيال على القيم العليا التي تسمو بالأفراد والمجتمعات. إنه تعليم يهدف إلى بناء الشخصية المتكاملة.

وبسبب هذا الدور المحوري الذي يجمع بين العلم والعمل والتربية والإصلاح، يحظى الربانيون بمكانة متميزة. يشير الإمام مجاهد رحمه الله إلى هذه المكانة بقوله: "هم فوق الأحبار". هذه الإشارة العميقة  تدل على دور قيادي يتجاوز تسجيل المعرفة وتدوينها إلى التأثير الفاعل في المجتمع وتحريكه نحو الصلاح. فالرباني يؤثر في المنظومة الفكرية والسلوكية، يوجه الأفراد، ويرسم مسارات التقدم للمجتمع على هدى من الله.

تتجلى الغاية الكبرى من هذا المنهج الرباني في بناء الإنسان الصالح والمجتمع القويم. يلخص الإمام البيضاوي رحمه الله هذه الغاية بقوله عن المقصد من أمر الله بأن نكون ربانيين: "فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير للاعتقاد والعمل". فالربانية، بهذا المعنى، منهج حياة شامل يرتكز على تكامل أبعاد أساسية هي: العلم النظري الراسخ المستمد من الكتاب والسنة، والتطبيق العملي الملتزم الذي يترجم العلم إلى واقع، والبعد الروحي العميق الذي يربط العبد بربه ويورث الخشية والإخلاص، والسعي الدؤوب نحو الإصلاح المجتمعي الشامل بالحكمة والموعظة الحسنة.

وهكذا، فإن الربانية روح تسري في جسد الأمة، ومنهج حياة متكامل. الربانيون الناهضون هم ورثة الأنبياء، وحملة راية العلم النافع، ورواد الإصلاح الذين يسعون لخير المجتمع، مستنيرين بنور الوحي، عاملين بالحكمة والموعظة الحسنة. إنهم يتجاوزون حدود نقل المعرفة ليصبحوا بناة للإنسان والمجتمع، يربون العقول ويهذبون النفوس، ويجسدون القدوة الحسنة في العلم والعمل والسلوك، تحقيقًا للغاية التي من أجلها أُرسل الأنبياء وأُنزل الكتاب: عبادة الله وحده، وعمران الأرض.