مقدمة : استكمال الرحلة - أدوات ووظائف وديناميكية
في المقال السابق (2أ)، بدأنا رحلتنا في فهم كيفية بناء العقل لعالمه المفاهيمي، مستكشفين المصادر الأساسية للمعاني – الوجود والوحي والتراث – وبعض الآليات المحورية التي يستخدمها العقل لـ"اعتقال" هذه المعاني وتحويلها إلى مفاهيم، مثل الحس والتجريد واللغة والتحليل والمقارنة. لكن عملية بناء المفاهيم لا تكتمل بهذه الأدوات وحدها، وغاية هذه المفاهيم تتجاوز مجرد التصنيف الأولي.
في هذا المقال، نستكمل رحلتنا؛ فنتعرف على أدوات أخرى يستخدمها العقل في ورشته المفاهيمية، ونكتشف كيف أن هذه المفاهيم التي نبنيها ليست مجرد قطع فسيفساء معرفية، بل هي الأدوات التي نجيب بها عن أسئلتنا الوجودية الكبرى. كما سنتعرف على فئة مهمة من المفاهيم تجيب عن سؤال "كيف؟" وهي المفاهيم المهارية، وأخيرًا سنقف على حقيقة مهمة وهي أن هذه المفاهيم ليست قوالب جامدة، بل كائنات حية تتسم بالديناميكية والتطور، مع ضرورة التمييز فيها بين الثابت والمتغير.
استكمال آليات "الاعتقال" والبناء (الجزء الثاني): أدوات متقدمة
تستمر ورشة العقل في استخدام أدوات أكثر تطورًا لـ"اعتقال" المعاني وبناء المفاهيم وتدقيقها:
الاستدلال والاستنتاج (توليد معانٍ جديدة من القديمة):
العقل ليس مجرد مُسجِّل أو مُصنِّف للمعاني، بل هو قادر أيضًا على توليد معانٍ ومفاهيم جديدة من خلال عمليات الاستدلال المنطقي (الاستنباط والاستقراء). يمكننا استنتاج علاقات جديدة بين المفاهيم، أو اشتقاق مفاهيم فرعية، أو بناء فرضيات وتصورات بناءً على المفاهيم والمعلومات المتوفرة لدينا. (مثال: استنتاج أن "الماء يتبخر عند الدرجة المائة " بعد ملاحظة عدة تجارب).
النماذج الأولية والتمثيلات (تكوين صور ذهنية):
لتسهيل التعامل مع المفاهيم، غالبًا ما يُكوّن العقل "نماذج أولية" أو أمثلة نموذجية تمثل المفهوم بشكل جيد. نقارن الأشياء أو الأفكار الجديدة بهذه النماذج لتحديد ما إذا كانت تنتمي للمفهوم أم لا. كما نستخدم تمثيلات ذهنية متنوعة (صور، مخططات، استعارات) لفهم المفاهيم وتذكرها. (مثال: قد يكون العصفور هو النموذج الأولي لمفهوم "الطائر").
القواعد والتعريفات (الضبط المنهجي للمفاهيم):
في سياقات تتطلب دقة عالية (كالعلوم، والرياضيات، والقانون)، نعتمد على تعلم القواعد الصارمة أو التعريفات الدقيقة التي تحدد المفهوم بشكل لا لبس فيه. يضمن هذا فهمًا مشتركًا ودقيقًا للمفهوم بين المتخصصين. (مثال: التعريف الهندسي للمربع).
الاستيراد والتبني (المفاهيم المهاجرة):
في عصر التواصل والانفتاح الثقافي، لا تقتصر عملية بناء المفاهيم على الاستخلاص المباشر من التجربة أو التراث الذاتي فقط. فكثير من المفاهيم تنتقل أو "تهاجر" من ثقافة إلى أخرى، غالبًا من خلال "المصطلح" الذي يصل أولاً. يقوم العقل هنا بعملية "استيراد" للمفهوم المرتبط بالمصطلح الوافد، ثم يحاول "تبنيه" وفهمه وتكييفه. تحمل هذه الآلية، رغم أهميتها، تحديات كبيرة تتعلق بالفهم السطحي أو المشوه، وتستدعي وعيًا نقديًا خاصًا.
تضافر الآليات:
من المهم ملاحظة أن هذه الآليات (المذكورة هنا وفي المقال السابق) لا تعمل بشكل منفصل، بل تتضافر وتتفاعل معًا في عملية بناء المفاهيم المعقدة والمتكاملة التي تعكس القدرات المدهشة للعقل البشري.
المفاهيم كإجابات على أسئلة الوجود الكبرى
إن عملية "اعتقال المعاني" وبناء المفاهيم المستمرة هذه لا تهدف فقط إلى مجرد تصنيف العالم، بل هي تزودنا بالأدوات الجوهرية للإجابة على الأسئلة الأساسية والوجودية التي تواجه وعينا في رحلته لفهم الوجود وموقعنا فيه. يمكن القول إن شبكتنا المفاهيمية هي التي تساعدنا على الإجابة عن:
ماذا؟ : الهوية والماهية (مفاهيم التصنيف والتعريف).
لماذا؟ : الأسباب والغايات والمعاني (مفاهيم السببية، المقاصد، القيم، الدوافع).
كيف؟ : الآليات والعمليات والمهارات (مفاهيم الإجراءات، المهارات، العمليات).
متى؟ : الزمن والتاريخ والتسلسل (مفاهيم الوقت، التاريخ، المراحل).
أين؟ : المكان والموقع والعلاقات المكانية (مفاهيم المكان، الاتجاهات، السياق).
نسيج الفهم المتكامل
إن بناء عالمنا المعرفي ليس مجرد تجميع لإجابات منفصلة، بل هو نسج لخيوط هذه الإجابات معًا في نسيج واحد متكامل ومترابط. يكتمل فهمنا لأي ظاهرة أو موقف عندما نستطيع الإجابة على هذه الأسئلة المختلفة بشأنه باستخدام شبكتنا المفاهيمية. والمفاهيم نفسها غالبًا ما تكون متعددة الأوجه وتساهم في الإجابة على أكثر من سؤال. إنها الأدوات التي لا غنى عنها لعقلنا في رحلته المستمرة نحو فهم أعمق وأشمل للوجود.
مفاهيم "الكيف": المعرفة المهارية والإجرائية (الإجابة العملية عن "كيف؟")
ضمن نسيج الأسئلة الوجودية التي تسعى المفاهيم للإجابة عليها، يكتسب سؤال "كيف؟" أهمية عملية خاصة، لأنه يتعلق مباشرة بقدرتنا على الفعل، والأداء، والتأثير في العالم من حولنا. هنا يأتي دور فئة متميزة وحيوية من المفاهيم: المفاهيم المهارية أو الإجرائية.
ما هي المفاهيم المهارية؟
إنها مفاهيم تتعلق بالإجراءات والخطوات والكيفيات. تمثل معرفتنا بـ "كيفية" القيام بشيء ما، بتنفيذ سلسلة من الأفعال أو العمليات العقلية أو الحركية بشكل منظم ومتتابع لتحقيق نتيجة معينة.
أمثلة من حياتنا:
(قيادة الدراجة، طهي وصفة، كتابة مقال، استخدام برنامج، حل مسألة).
الاهتمام القرآني بـ "الكيفية": من الإيمان إلى الفعل
إن أهمية معرفة "كيف" تتم الأمور لا تقتصر على حياتنا العملية المعقدة، بل نجد لها أصداء وجذورًا عميقة في القرآن الكريم، مما يدل على أنها جزء أصيل من رحلة الإنسان في الفهم والإيمان والتفاعل مع الحياة وتحدياتها منذ البداية. نرى ذلك بوضوح في قصة ابني آدم، عندما احتار الأخ القاتل في كيفية التعامل مع جثة أخيه، "فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ..." (المائدة: 31). هنا، كانت المشكلة هي الجهل التام بـ "كيفية" الفعل، وجاء الحل من خلال ملاحظة سلوك كائن آخر يقدم نموذجًا إجرائيًا عمليًا. كما نجد هذا الاهتمام بالكيفية في تساؤل إبراهيم عليه السلام: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ" (البقرة: 260)، وهو سؤال لم يكن نابعًا من شك، بل من رغبة في رؤية "كيفية" وقوع الفعل الإلهي ليزداد القلب اطمئنانًا ويترسخ اليقين. هذا الاهتمام القرآني المتكرر بالكيفية يؤكد على أن فهم الآليات والعمليات والمهارات (المفاهيم الإجرائية) هو جزء لا يتجزأ من المعرفة المتكاملة التي يحتاجها الإنسان للتفاعل السليم مع دينه ودنياه.
خصائصها المميزة:
- التركيز على العملية.
- الطابع العملي.
- الاكتساب بالممارسة.
- احتمالية الضمنية .
- التلقائية .
أهميتها الحيوية:
إن المفاهيم المهارية هي جسر العبور من عالم الفهم النظري إلى عالم الفعل والتأثير. إنها الإجابة العملية والحيوية على سؤال "كيف؟".
ديناميكية المفاهيم: بين الثبات والتغير
إن إدراك هذه الطبيعة المرنة والمتطورة للمفاهيم، وتأثرها بالتجربة والثقافة، له أهمية بالغة. لكن هذا الإدراك يجب ألا يقودنا إلى القول بسيولة مطلقة حيث لا قرار لشيء. ففي إطار الرؤية الإسلامية، وبينما تتسم الكثير من المفاهيم (خاصة العملية والتطبيقية والمتعلقة بفهمنا المتجدد للكون والواقع) بالمرونة والقابلية للتطور والنقد، إلا أن هناك مفاهيم أساسية وثابتة تشكل أصول الدين وجوهر العقيدة والقيم العليا. هذه المفاهيم، المستمدة من نصوص الوحي القطعية الثبوت والدلالة (مثل مفهوم وحدانية الله المطلقة، أو أركان الإيمان، أو أصول الأخلاق كالعدل والصدق)، هي ثوابت لا تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الثقافة.
مهمتنا إذًا، هي التمييز الواعي بين هذين النوعين من المفاهيم:
المفاهيم الثابتة (الأصول): التي يجب فهمها بعمق، والإيمان بها بثبات، والدفاع عنها.
المفاهيم المتغيرة (الفروع والتطبيقات): التي تحتاج إلى تطوير مستمر، ونقد بناء، وتكييف مع الواقع المتغير، في إطار الأصول الثابتة وتحت ضوء هداياتها.
هذا التمييز الواعي بين الثابت والمتغير:
يحفظ الهوية والأصالة.
يمنح المرونة والحيوية.
يدعونا للتواضع المعرفي.
يشجع على التعلم المستمر والنقد البناء.
يعزز الحوار والتفاهم.
إن مفاهيمنا ليست سجنًا نقبع فيه، ولا هي رمال متحركة لا قرار لها. بل هي منظومة معرفية وقيمية تمتلك جذورًا ثابتة وأغصانًا نامية، ومهمتنا هي أن نرعى الجذور ونغذي الأغصان بحكمة وبصيرة.
خاتمة (للمقال 2ب): اكتمال الرحلة الأولى نحو بيئة المفاهيم
بهذا نكون قد أكملنا استكشاف رحلة بناء المفاهيم واكتسابها. انطلقنا من فهم مصادر المعنى الأساسية، وتتبعنا الآليات المتنوعة التي يستخدمها العقل لـ"اعتقال" هذه المعاني وصياغتها في قوالب المفاهيم. ثم رأينا كيف أن هذه المفاهيم ليست مجرد أدوات تصنيف، بل هي عدسات نجيب بها عن أسئلتنا الوجودية الكبرى، وكيف أن المفاهيم المهارية تمكننا من الفعل والتأثير. وأخيرًا، وقفنا على الطبيعة الديناميكية للمفاهيم، مؤكدين على ضرورة التوازن بين الثبات على الأصول والمرونة في الفروع.
لقد اكتملت لدينا الآن صورة أوضح لكيفية تشكل هذه اللبنات الأساسية للفكر. لكن القصة لا تنتهي هنا. فهذه المفاهيم لا تعيش منعزلة، بل تتفاعل وتتدافع وتتشابك في "بيئة" داخلية معقدة داخل عقولنا وثقافاتنا. ما هي ديناميكيات هذه البيئة؟ كيف تنمو المفاهيم وتشيخ وتموت؟ وكيف تتنافس أو تتعاون فيما بينها؟ هذا ما سنغوص فيه في المقال الثالث بإذن الله، لنفهم "بيئة" المفاهيم الداخلية.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.