استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

نسيان الله وفقدان بوصلة الذات (تدبر في الآية 19 من سورة الحشر)


مقدمة: أخطر أنواع النسيان

في رحاب سورة الحشر، وبعد الحث على التقوى والنظر فيما قدمت النفس للآخرة، يأتي تحذير إلهي شديد اللهجة من الوقوع في أخطر أنواع النسيان؛ نسيانٌ لا يقتصر أثره على غياب معلومة عابرة، بل يمتد ليصيب جوهر الوجود الإنساني ويفقد الإنسان بوصلته في الحياة. إنه التحذير من التشبه بفئة من الناس اختارت طريق الغفلة والإعراض، فكانت عاقبتها وخيمة. يقول تعالى: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (الحشر: 19). هذه الآية ليست مجرد نهي، بل هي تشخيص لمرض قاتل، وكشف عن علاقة حتمية بين نسيان المصدر وضياع الذات، ودرس بليغ للناهضين والمصلحين حول أساس بناء الفرد والمجتمع.

أولاً: "نَسُوا اللَّهَ" - جذر الداء ومنبع الضلال

تحدد الآية أصل المشكلة وجذر الداء بكلمة واحدة جامعة: "نَسُوا اللَّهَ". هذا النسيان ليس مجرد سهو عابر، بل هو، كما قال البقاعي رحمه الله، "أعرضوا عن أوامره ونواهيه وتركوها ترك الناسين". إنه نسيان لذكره وشكره وعبادته، ونسيان لمراقبته وحدوده، ونسيان لألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ونسيان للغاية التي من أجلها وُجد الإنسان. هذا النسيان الإرادي أو الناتج عن الغفلة هو "أخطر أنواع فقدان الذاكرة"، لأنه يقطع الصلة بالمصدر الأول للحياة والمعنى والقيم والهداية.

ثانياً: "فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ" - العقوبة الحتمية وفقدان البوصلة

تأتي الفاء السببية لتوضح النتيجة الحتمية والعقوبة العادلة لنسيان الله: "فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ". يا له من عقاب مرعب! أن ينسى الإنسان نفسه! وكيف يكون ذلك؟ إن من ينسى ربه، ينسيه الله ذاته ونفسه، "فلم يعرف حقيقتها ولا مصالحها، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلا مهملا، بمنزلة الأنعام السائبة..." كما أوضح الإمام ابن القيم رحمه الله. ويضيف سيد قطب رحمه الله أن من ينسى الله "يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى. وفي هذا نسيان لإنسانيته...". فنسيان النفس هو جهل بحقيقتها وقيمتها وكرامتها، وجهل بمصالحها الحقيقية في الدنيا والآخرة، وغفلة عن عيوبها وحاجتها للتزكية، وضياع لهويتها وفقدان لغايتها. واستخدام صيغة الجمع "أنفسهم" قد يحمل إشارة أعمق إلى أن نسيان الله يؤدي أيضًا إلى نسيان "النفس" الجماعية للأمة، فتفقد هويتها وذاكرتها ومصلحتها المشتركة وبوصلتها الجامعة.

ثالثاً: العلاقة بين معرفة الله ومعرفة النفس

تكشف الآية، بمفهوم المخالفة، عن علاقة تلازمية وثيقة بين معرفة الله ومعرفة النفس. فإذا كان نسيان الله يؤدي إلى نسيان النفس، فإن العكس صحيح أيضًا. يقول ابن عطية رحمه الله: "ويعطي لفظ هذه الآية، أن من عرف نفسه ولم ينسها عرف ربه تعالى"، ويستشهد بالقول المأثور عن الإمام علي رضي الله عنه: "اعرف نفسك تعرف ربك"، و "من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه". فمعرفة الإنسان بنفسه، وإدراكه لقصوره وحاجته وفقره وضعفه، هو الذي "يوجهه إلى مصدر القيم" والكمال، وهو الله سبحانه وتعالى. فالطريق إلى معرفة الله يبدأ من التفكر الصادق في الذات.

رابعاً: أسماء الله: مصدر القيم والمعايير

إن خطورة نسيان الله تتضاعف عندما ندرك أن أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ليست مجرد أسماء، بل هي "مصدر لمفاهيمنا وقيمنا". فمن اسم "العليم" نستلهم قيمة العلم، ومن "الرحمن" نستلهم الرحمة، ومن "العدل" نستلهم العدل. فإذا نُسيت هذه الأسماء والصفات، "فقدنا الصلة بقيمنا التي لا نقوم إلا بها وتعطلت البوصلة" الأخلاقية والمعرفية، وضاعت المعايير الثابتة التي نحكم بها على الأمور، وأصبحنا نتخبط في ظلمات الأهواء والنسبية.

خامساً: "أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" - الحكم والخروج عن الفطرة

تختم الآية بالحكم القاطع على هؤلاء الناسين: "أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ". الفسق هو الخروج عن الطاعة وعن الطريق المستقيم. ونسيان الله ونسيان النفس هو أعظم خروج، فهو خروج عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، ونبذ لعهد الله، ونهايته الخسران المبين.

خاتمة: التذكر حياة.. والناهض مذكِّر

إن آية سورة الحشر هذه تقدم تشخيصًا دقيقًا لأخطر أمراض القلوب والمجتمعات: نسيان الله. وتبين عاقبته الوخيمة المتمثلة في نسيان الذات وضياع الهوية والقيم والغاية. ولكن القرآن لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدم العلاج في الآيات اللاحقة مباشرة، بتعظيم أثر القرآن (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ...)، والتعريف بالله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ...).

وهنا يتحدد دور الناهض بوضوح: مهمته الأساسية هي محاربة هذا النسيان القاتل في نفسه وفي مجتمعه. هو "المذكِّر" الذي يعيد ربط الناس بربهم، ويعرفهم به بأسمائه وصفاته، ويحثهم على تدبر كتابه، ليساعدهم على "تذكر أنفسهم" ومعرفة حقيقتها ومصالحها وقيمها. فالنهضة الحقيقية تبدأ من إحياء ذكر الله في القلوب والعقول، ومن استعادة البوصلة القيمية والمعرفية المستمدة من معرفته سبحانه. فلنكن من الذاكرين الله، العارفين بأنفسهم، السائرين على صراطه المستقيم، ولنحذر أن نكون من الفاسقين. والحمد لله رب العالمين.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.