استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

القرآن.. ذاكرة الأمة ومصدر عزها في سورة الأنبياء (تدبر في الآية 10 من سورة الأنبياء)


مقدمة: نداء الإيقاظ من الغفلة في سورة "الذكر"

تأتي سورة الأنبياء كصرخة إيقاظ للبشرية الغارقة في غفلتها وإعراضها عن الحق مع اقتراب حسابها. ويبدو أن مفهوم "الذكر" أو "الذاكرة" بمختلف تجلياته (الرسالة، التذكير، العبرة، الشرف، القرآن نفسه) يمثل عمودًا فقريًا تخترق آيات السورة، مقدمًا العلاج الإلهي لحالة النسيان والغفلة التي تمثل أصل الداء البشري. فالسورة تفتتح بالحديث عن إعراض الناس عن "الذكر" المحدث، وتستعرض قصص الأنبياء كحملة لهذا "الذكر" عبر التاريخ، وتصف القرآن بأنه "ذكر مبارك"، وتجعل من قصص السابقين "ذكرى للعابدين"، وتختم بأن ميراث الأرض للصالحين مكتوب "من بعد الذكر". في قلب هذا السياق المحوري للذكر والذاكرة، يأتي نداء إلهي قوي في الآية العاشرة، ليكشف عن قيمة الكنز الثمين الذي بين أيدي الناس ومصدر شرفهم الحقيقي: "لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (الأنبياء: 10). هذه الآية ليست مجرد إخبار عن نزول القرآن، بل هي دعوة لإدراك قيمته كذاكرة حية للأمة، وتذكير بوظيفته كمصدر لعزها، وتحريض على التمسك به لمواجهة النسيان والغفلة.

أولاً: الكتاب المنزل.. الذاكرة المحفوظة

يؤكد الله تعالى بالقسم أنه أنزل إلينا "كتابًا"، وهو القرآن الكريم. ووصفه بالكتاب، كما أشار المفسرون، يدل على كونه مدونًا، جامعًا، محفوظًا بحفظ الله. ويصفه البقاعي رحمه الله وصفًا بليغًا بأنه "جامع لجميع المحاسن لا يغسله الماء ولا يحرقه النار"، في إشارة إلى خلوده وبقائه كذاكرة لا تُمحى، ومعجزة مفتوحة للأجيال، كما قال سيد قطب رحمه الله: "إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال، وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد". إنه الذاكرة الحية والمتجددة التي يمكن لكل جيل أن ينهل منها ويستعيد بها حيويته وهويته.

ثانياً: "فِيهِ ذِكْرُكُمْ".. شرف وهوية ومنهج

ما القيمة الجوهرية لهذا الكتاب المنزل الذي يمثل محور "الذكر" في السورة؟ تجيب الآية: "فِيهِ ذِكْرُكُمْ". هذه الكلمة الجامعة تحمل معاني عميقة ومتكاملة، تمثل جوهر علاقة الأمة بهذا الكتاب كذاكرة حية:
الشرف والعزة والمكانة: المعنى الأبرز هو أن في هذا الكتاب شرفكم وعزكم ومجدكم ورفعتكم بين الأمم. وكما يؤكد الشيخ السعدي رحمه الله، فإن هذا "مصداقه ما وقع، فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا بالقرآن... حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر... ما هو أمر معلوم لكل أحد". ويضيف سيد قطب أن العرب "لم يكن لهم قبله ذكر... فلما حملوا رسالته... ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب". فالقرآن هو صانع "ذكر" الأمة ومجدها التاريخي
التذكير بالمنهج والهوية: "ذكركم" يعني أيضًا، كما أشار الماتريدي، "ما يُذكِّركم ما تأتون وتتقون" (الأوامر والنواهي ومنهج الحياة)، و "ما يُذكِّركم مالكم وما عليكم" (الحقوق والواجبات والهوية والمسؤوليات). فالقرآن هو الذاكرة التي تحفظ للأمة منهجها وهويتها، وتذكرها بما لها وما عليها.
الصلاح والهداية: "ذكركم" يشمل أيضًا، كما نقل الطوسي عن الحسن، "ما تحتاجون إليه من أمر دينكم"، فهو الهادي إلى كل خير وصلاح في الدنيا والآخرة.
مكارم الأخلاق: هو "ذكر" وشرف، كما قال الطوسي، "لما فيه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال"، التي ترفع قدر الإنسان وتزين سيرته.
الذكر الحسن أو السيء: وفيه أيضًا، كما نبه البقاعي، "ذكركم طوال الدهر بالخير إن أطعتم، والشر إن عصيتم". فالقرآن هو الميزان الذي سيحدد كيف ستُذكر الأمة في التاريخ بناءً على تعاملها معه.
إذًا، القرآن هو ذاكرة الأمة الشاملة: ذاكرة هويتها، وشرفها، ومنهجها، وأخلاقها، ومصيرها التاريخي، وهو الترياق لحالة الغفلة والنسيان التي تعالجها السورة.

ثالثاً: "أَفَلَا تَعْقِلُونَ".. نداء للذاكرة وتحريض للعقل

تُختم الآية باستفهام يحمل في طياته التوبيخ والتحريض معًا: "أَفَلَا تَعْقِلُونَ". أليس لديكم عقول تدركون بها قيمة هذا الكنز الذي بين أيديكم؟ كيف تعرضون عن مصدر عزكم وشرفكم وهدايتكم وذاكرتكم؟! إنها دعوة قوية لاستخدام العقل والتدبر، فكما قال الطوسي: "أفلا تتدبرون، فتعلموا أن الأمر على ما قلناه". العقل السليم والتدبر العميق لا بد أن يقودا إلى إدراك قيمة القرآن وضرورة التمسك به. ويرى ابن عطية أن هذا الاستفهام هو "تأكيد للتحريض" الذي تحمله الآية، فالله يحرضنا على الإقبال على كتابه باستثارة عقولنا لتقدير قيمته ومصلحتنا فيه. فالذاكرة الحية لا بد أن تحرك العقل، والعقل الواعي لا بد أن يتمسك بذاكرته التي تحفظ وجوده وقيمته.

رابعاً: من الغفلة إلى الذكر.. دور الناهض الذاكرة

في مقابل "الذكر" الذي يمثل عمود السورة ويحمله القرآن، تأتي "الغفلة" و"النسيان" كمشكلة أساسية للإنسان والمجتمعات. وكما أن فقدان الذاكرة الفردي يسبب الضياع والمعاناة ويجعل الفرد "مغبونًا"، فإن فقدان الذاكرة الجماعية، المتمثل في الإعراض عن القرآن وهجر قيمه ومنهجه، يجعل المجتمع أيضًا "مغبونًا"، فاقدًا لهويته، مكررًا لأخطائه، ضعيفًا متخلفًا، كما شخص سيد قطب حال الأمة عندما تخلت عن كتابها: "انحط فيها ذكرهم، وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس".
وهنا يتجلى دور "الناهض الذاكرة". الناهض في مجتمعه هو ذلك الذي يحمل همّ إحياء هذه الذاكرة المفقودة أو المهملة التي تمثل محور السورة. دوره، اقتداء بالأنبياء الذين عرضت السورة قصصهم كحملة للذكر، هو:
تذكير الأمة بأن مصدر عزها وشرفها ونهضتها الحقيقية هو في كتاب ربها، هذا "الذكر المبارك".
إيقاظ العقول لتدبر هذا الكتاب وإدراك كنوزه، استجابة لنداء "أفلا تعقلون".
تحريض الهمم للتمسك به والعمل بما فيه من أوامر ونواهٍ ومكارم أخلاق.
تقديم النموذج التاريخي للجيل الأول كدليل حي على أثر القرآن في صناعة "الذكر" والمجد.
محاربة الغفلة والنسيان وكل ما يؤدي إلى فقدان الأمة لذاكرتها وهويتها، والعودة بها إلى "الذكرى" والعبرة.

خاتمة: العودة إلى الذاكرة.. طريق النهضة

إن آية "لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، ضمن سياق سورة الأنبياء التي تمجد "الذكر" وتحارب "الغفلة"، هي نداء خالد لكل أمة ولكل فرد. إنها تضع أمامنا الحقيقة بوضوح: عزنا وشرفنا وهويتنا ونهضتنا تكمن في هذا الكتاب العظيم، ذاكرتنا الحية التي لا تبلى. والإعراض عنه هو سبيل الغفلة والضياع والشقاوة. فلا سبيل إلى السعادة والرفعة في الدنيا والآخرة، كما قال الشيخ السعدي، "إلا بالتذكر بهذا الكتاب". فلنستجب لنداء العقل، ولنُحيي في أنفسنا ومجتمعاتنا هذه الذاكرة المباركة التي تمثل روح سورة الأنبياء، ولنجعل من القرآن الكريم منطلق نهضتنا ومصدر عزنا، نتدبره، ونعمل به، وندعو إليه، لنكون بحق خير أمة أخرجت للناس. والحمد لله رب العالمين.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.