يُعتبر الاكتفاء الذاتي المستدام من المفاهيم الجوهرية التي تعزز كرامة الفرد وتساهم في سيادة الدولة وازدهار الأمة. إنه ليس مجرد مفهوم اقتصادي، بل هو فلسفة حياة تدعو إلى الاعتماد على النفس واستثمار الموارد المتاحة لتحقيق تنمية مستدامة.
لطالما استوقفني هذا الحديث الشريف منذ أيام المدرسة لفهم الغاية منه. يقول عليه الصلاة والسلام: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها." يعكس عمق هذا المفهوم، حيث يُبرز أهمية العمل والإنتاج حتى في أصعب الظروف. فرغم أن الفسيلة تحتاج إلى وقت طويل لتنمو، فإن الفعل نفسه يحمل رسالة قوية حول ضرورة السعي والاجتهاد.
يشجع هذا الحديث الأفراد على الاستمرار في العمل والإنتاج، بغض النظر عن الظروف. فزرع الفسيلة لا يعود بالفائدة فقط على الفرد، بل يُفيد الأجيال القادمة أيضًا. وهنا يظهر البعد الجماعي للاكتفاء الذاتي، حيث يصبح الجهد الفردي جزءًا من مشروع أكبر يسعى لتحقيق الاكتفاء لأمة كاملة.
الأبعاد الاقتصادية
يساهم الاكتفاء الذاتي المستدام في تعزيز القدرة الاقتصادية للدولة من خلال تطوير الصناعات المحلية من خلال الاهتمام بتطوير الزراعة المستدامة، يمكن تقليل الاعتماد على الواردات، مما يُحسن الميزان التجاري ويخلق فرص عمل جديدة.
الأبعاد الاجتماعية
يساهم الاكتفاء الذاتي المستدام في تعزيز التماسك الاجتماعي. عندما يعمل الأفراد معًا لتحقيق أهداف مشتركة، يتعزز الشعور بالانتماء والروابط الاجتماعية. كما أن تعزيز الإنتاج المحلي يُمكن أن يُقلل الفوارق الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية.
الأبعاد البيئية:
يشجع الاعتماد على الذات على استخدام الموارد الطبيعية بطريقة مستدامة. من خلال التركيز على الزراعة العضوية والتقنيات البيئية، يمكن حماية البيئة وتعزيز التنوع البيولوجي، مما يُسهم في بناء مجتمع مستدام.
الأبعاد الثقافية
يعيد الاكتفاء الذاتي المستدام إحياء القيم الثقافية والتراثية. من خلال تشجيع الصناعات التقليدية والحرف اليدوية، يمكن الحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز الفخر الوطني، مما يُعكس قوة المجتمع وقدرته على الابتكار.
تؤكد نصوص قرآنية على أهمية العمل والسعي والاعتماد على النفس لتحقيق اكتفاء ذاتي على المستوى الفردي و على مستوى الأمة يقول تعالى: " وَقُلِ ٱعۡمَلُوا۟ فَسَیَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ"
(التوبة: 105)
"هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولًا فَٱمۡشُوا۟ فِی مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَیۡهِ ٱلنُّشُورُ" (المُلك: 15)
فالمشي في الأرض ليس للسياحة فقط بل زراعة و إعمار لتحقيق حياة طيبة للإنسان وحفاظ على البيئة.
{ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُوا۟ مِنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَٱعۡمَلُوا۟ صَـٰلِحًاۖ إِنِّی بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِیمࣱ }
[سُورَةُ المُؤۡمِنُونَ: ٥١]
حتى الأنبياء مطالبين بالعمل لتكتمل لهم نعمة الطيبات والتي لا تكتمل إن لم يتم العمل والسعي.
وتؤكد الأحاديث على أهمية العمل كوسيلة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، مثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعامًا أفضل من أن يأكل من عمل يده."
كما يقول عليه الصلاة والسلام: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه."
اقتباسات لمفكرين مسلمين
- ابن خلدون: "إن الدولة لا تبقى إلا إذا كانت قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي لشعبها."
- محمد إقبال: "الاعتماد على النفس هو الطريق نحو النهضة."
- مالك بن نبي: "الاكتفاء الذاتي هو أحد مفاتيح النهضة."
- الدكتور يوسف القرضاوي: "الاكتفاء الذاتي ضرورة لتحقيق كرامة الأمة."
اقتباسات لمفكرين غربيين
- أدم سميث: "لا يمكن لأي أمة أن تكون غنية حقًا إلا إذا كانت قادرة على الاعتماد على نفسها."
- جون ماينارد كينز: "الاقتصاد ليس مجرد أرقام، بل هو كيفية استخدام الموارد لتحقيق الاكتفاء الذاتي."
تجمع الاقتباسات السابقة أن الاكتفاء الذاتي أساسٌ لتحقيق الاستقلالية والنهضة، مما يعكس أهمية الاعتماد على النفس واستثمار الموارد المحلية.
إن تحقيق الاكتفاء الذاتي المستدام ليس مجرد هدف اقتصادي، بل هو فلسفة شاملة تمس كافة جوانب الحياة. إن الاعتماد على النفس واستثمار الموارد المتاحة يعزز كرامة الفرد، ويعزز من قوة الدولة وقدرتها على تحقيق التنمية المستدامة. من خلال تعزيز الصناعات المحلية والزراعة المستدامة، يمكننا تقليل الاعتماد على الواردات وتحقيق توازن اقتصادي. ومن خلال العمل الجماعي والتكاتف الاجتماعي، يمكننا بناء مجتمع متماسك يسعى لتحقيق الاكتفاء لأجياله القادمة. إن العودة إلى القيم الثقافية والتراثية، وتشجيع الصناعات التقليدية، يعكس هويتنا الثقافية ويعزز من فخرنا الوطني. بذلك، يمكننا بناء مجتمع قوي وقادر على مواجهة التحديات وتحقيق الازدهار.
لن يبقى الاكتفاء الذاتي مجرد شعار، بل سيتحول إلى حقيقة ملموسة تسهم في بناء أمة قوية ومستدامة. فعلينا جميعًا أن نغرس تلك الفسيلة في أيدينا، ونعمل بجد واجتهاد نحو مستقبل مشرق وازدهار دائم. في النهاية، الاكتفاء الذاتي ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق كرامة الفرد وسيادة وازدهار الأمة.
د.عائشة مياس