مقدمة : الفرصة الرمضانية للتزكية
يأتي رمضان حاملاً معه فرصة عظيمة للتزكية الربانية، تلك التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة الشمس "قد أفلح من زكاها". وتتجلى عظمة هذه الآية في سياقها المهيب، حيث سبقتها أقسام إلهية متتابعة ترسم حركة كونية دقيقة بين ثنائيات متقابلة : الشمس والقمر بين الكِبَر والصغر، والنهار والليل بين الضوء والعتمة، والسماء والأرض بين الارتفاع والانبساط، لتصل إلى النفس البشرية في حركتها بين الفجور والتقوى.
الفلاح والنجاح : الفارق الجوهري
تكمن أهمية التزكية في أنها تتجاوز مفهوم النجاح المحدود إلى الفلاح الشامل. فالنجاح قد يكون مؤقتاً أو محدوداً في نطاق معين، كالنجاح في امتحان أو مشروع تجاري، أما الفلاح فهو أشمل وأعمق، يمتد أثره للدنيا والآخرة، ويشمل السعادة الروحية والمادية، ويتضمن الاستمرارية والديمومة.
رؤية العلماء للتزكية والفلاح
يقول الإمام الماتريدي في تفسير الفلاح: "المفلح في الجملة، هو الذي يظفر بما يأمل، وينجو مما يحذر". ويضيف البقاعي معنىً عميقاً للتزكية بقوله: "نماها وأصلحها وصفاها تصفية عظيمة بما يسَّره الله له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة وطهَّرها على ما يسَّره لمجانبته من مذامِّ الأخلاق".
المنهج الرباني : أساس التزكية
يبرز المنهج الرباني في التزكية، فكما يشير الزمخشري، التزكية هي "الإنماء والإعلاء بالتقوى"، في مقابل التدسية التي هي "النقص والإخفاء بالفجور". وهذا يؤكد أن التزكية الحقيقية لا تكون إلا وفق المنهج الرباني، الذي يجمع بين التخلية (التطهير من السلبيات) والتحلية (التنمية بالإيجابيات).
البعد المعاصر للتزكية
يضيف سيد قطب بُعداً معاصراً في فهم التزكية، حيث يرى في النفس البشرية "استعدادات فطرية كامنة" و"قوة واعية مدركة موجهة" تُناط بها المسؤولية. فالتزكية عنده عملية واعية تبدأ بالوعي الذاتي، وتمر بالاختيار الواعي، وتنتهي بالتنمية المستمرة.
رمضان: موسم التزكية الفردية والجماعية
يتجلى شهر رمضان كمحطة سنوية للتزكية الفردية والجماعية، حيث يلتقي فيه الجهد البشري مع العون الإلهي، كما يشير إليه حديث النبي ﷺ الذي أورده الشنقيطي: "اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها". فالتزكية منحة ربانية تحتاج إلى سعي العبد ودعائه.
نحو مجتمع النهضة
إن مجتمع النهضة المنشود لا يمكن أن يتحقق إلا بتزكية أفراده، فردية وجماعية، وفق المنهج الرباني. فالتزكية ليست مجرد تحسين ظاهري أو نجاح مؤقت، بل هي مشروع حياة متكامل يجمع بين تطهير النفس وتنميتها، بين العمل والدعاء، بين الجهد الفردي والسعي الجماعي.
التزكية طريق النهضة الشاملة
يتجلى رمضان فرصة ثمينة لإعادة صياغة النفس وفق المنهج الرباني، والارتقاء بالمجتمع نحو آفاق النهضة الحقيقية، متجنبين مصير من "دساها" الذي أدى به إلى الخيبة والخسران. فالتزكية الربانية هي الضمان الحقيقي للفلاح الفردي والجماعي، وهي السبيل الأمثل لتحقيق النهضة الشاملة التي تتجاوز النجاحات المؤقتة إلى الفلاح المستدام.
كتب حسان الحميني والله الموفق.