استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

بين رؤية الظواهر ورؤية الآيات (نحو نظرة عمرانية متكاملة)


"البعض يمر على العوالم المحيطة به من أفكار وأشخاص وأشياء فيراها ظواهر لا أقل ولا أكثر وآخرون يرون فيها آيات، وكذلك يمرون على القرآن فيرون فيه قولًا وآخرون يشهدون آيات، فيصل أصحاب الظواهر إلى التفكير وأصحاب الآيات إلى التفكر."

تنطلق هذه المقالة من تمييز دقيق بين نمطين من الرؤية: رؤية الظواهر ورؤية الآيات. إنه تمييز يتجاوز مجرد الاختلاف المعرفي إلى اختلاف أعمق في طريقة فهم الكون والحياة وما يترتب عليه من آثار على مستوى الفرد والمجتمع.

 التفكير والتفكر: النظرة للكون والقرآن

يتميز أصحاب الظواهر بنظرتهم السطحية للأشياء، حيث يقفون عند حدود المشاهدة الخارجية والتفكير المجرد. أما أصحاب الآيات فيتعمقون ويتأملون ليروا الحكمة والمعنى خلف كل ما خلق الله وكل ما أنزل في كتابه.
التفكير قد يوصل إلى المعرفة، لكن التفكر يوصل إلى المعرفة المقترنة بالخشوع والإيمان. قال تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ".
في القرآن الكريم، نجد نموذجاً لهذا التفكر في دعاء أولي الألباب: "ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك". هذا الدعاء يعبر عن حالة القلب والعقل عندما يتجاوزان مجرد رؤية الظواهر إلى إدراك الآيات، وهو اعتراف بكمال الخالق وتنزيهه عن العبث، وإقرار بأن وراء كل مخلوق حكمة بالغة وتدبير محكم.

 اللغة بين الظاهرة والآية

اللغة نموذج واضح للفرق بين الرؤيتين:
من ينظر إلى اللغة كظاهرة لسانية يراها أداة تواصل ونظامًا من الرموز والقواعد المتفق عليها اجتماعيًا. يدرس أصواتها وتراكيبها وقواعدها ونحوها وصرفها، ويحللها تحليلاً علمياً محضاً.
أما من ينظر إلى اللغة كآية من آيات الله، فيتجاوز المستوى السطحي إلى أعماق أخرى:
- يتأمل في كيف أن الله علّم الإنسان البيان، وجعل اللغة وسيلة للتفكير والإبداع
- يرى إعجازاً في تنوع اللغات واختلافها بين البشر كما قال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ"
- يتفكر في قدرة الطفل الصغير على اكتساب اللغة بسهولة ويسر دون تعليم رسمي
- يرى في نزول القرآن باللغة العربية تشريفًا لها وحفظًا لها عبر الزمن

الحضارة والعمران: الأثر في حياة المجتمعات

إن ما يترتب عن هاتين الرؤيتين من أثر في حياة المجتمعات ليس واحداً:
من يرى الظواهر يصنع حضارة - وهي بناء مادي خارجي يتمثل في:
- تطور تقني وعلمي محسوس
- تنظيمات اجتماعية وسياسية تعتمد على العقل المجرد
- قوانين وضعية تنظم الحياة من منظور إنساني بحت
- اقتصاد يهدف للنمو المادي والاستهلاك

أما من يرى الآيات فيصنع عمراناً - وهو بناء أشمل يجمع بين :
- التطور المادي والروحي معاً
- نهضة علمية تستنير بالوحي
- نظام اجتماعي يراعي الفطرة ويحقق العدل
- اقتصاد يوازن بين النمو والقيم الأخلاقية
- عمارة للأرض مقترنة بعبادة الله
الحضارة قد تبني المدن وتشيد العمران المادي، لكنها قد تفتقر إلى المعنى والغاية. أما العمران بمفهومه الإسلامي الشامل فيجمع بين عمارة الأرض وعمارة القلب، بين تطوير الحياة وتزكية النفس.

مالك بن نبي وسيد قطب: رؤيتان للنهضة

تتجلى هذه الثنائية في خلاف مفاهيمي مهم بين مفكرين إسلاميين بارزين هما مالك بن نبي وسيد قطب رحمهما الله:
مالك بن نبي تعامل مع مفهوم "الحضارة" بشكل إيجابي وحاول إعادة صياغته من منظور إسلامي. فعرّفها بأنها "مجموعة من الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده جميع المساعدات الاجتماعية الضرورية في كل طور من أطوار وجوده." وقد وضع معادلته الشهيرة: الإنسان + التراب + الوقت = الحضارة، مضيفاً أن الدين هو المحرك الأساسي لهذه المعادلة.

أما سيد قطب فكان أكثر تحفظاً تجاه مصطلح "الحضارة" واعتبره مصطلحاً غربياً يحمل في طياته فلسفة مادية. لذلك فضّل مفهوم "العمران" المستمد من التراث الإسلامي والقرآن الكريم. اعتبر سيد قطب أن الحضارة الغربية المادية تمثل "جاهلية" معاصرة تحتاج إلى تجاوز، وليس مجرد إصلاح أو تبني بشكل انتقائي.
هذا الخلاف يعكس تماماً ما طرحناه:
- فمالك بن نبي حاول أن يرى في الحضارة كظاهرة إنسانية إمكانية تحويلها إلى آية عبر إضفاء البعد الروحي عليها
- بينما رأى سيد قطب أن مفهوم "العمران" هو الأصل في التصور الإسلامي وأنه يمثل رؤية الآيات بشكل أصيل
 نحو رؤية متكاملة
إن التمييز بين رؤية الظواهر ورؤية الآيات ليس دعوة لرفض العلوم التجريبية أو التقدم المادي، بل هو دعوة لتجاوز السطحية في فهم الأشياء إلى عمقها وغايتها.
المسلم مطالب بأن يجمع بين العلم والإيمان، بين التفكير والتفكر، وأن يحول المعرفة إلى معرفة عاملة، وأن يرى في كل ظاهرة آية تدله على خالقها.
هذه الرؤية المتكاملة هي التي يمكن أن تنتج نهضة حقيقية تجمع بين الحضارة بمعناها المادي والعمران بمعناه الشامل، وتحقق للإنسان سعادة الدنيا والآخرة.
﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

كتب حسان الحميني 
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.