استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

أثر رمضان (المنظومة الثلاثية للنهوض الحضاري)


يتساءل الكثيرون مع انقضاء شهر رمضان المبارك وحلول شوال: هل يترك فينا رمضان أثراً حقيقياً بعد رحيله؟ فالزائر الحقيقي هو الذي ينفع بعد مغادرته، ويُذكر بالخير بعد انصرافه. وشهر رمضان ليس مجرد موسم عبادي عابر، بل هو محطة لإعادة البناء الشامل للإنسان، وتأهيله للنهوض بمسؤولياته في عمارة الأرض.
إذا تأملنا في مطلع سورة البقرة، نجد أن الله تعالى حدد ثلاثة محاور أساسية للشخصية المؤمنة: ﴿اَ۬لذِينَ يُومِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَۖ﴾. هذه المحاور الثلاثة تشكل منظومة متكاملة ومتفاعلة للنهوض الحضاري، وليست عناصر منفصلة أو "شظايا" متفرقة. وشهر رمضان يعمل على تنشيط هذه المنظومة بصورة متكاملة.
المحور الأول : الإيمان بالغيب - تحرير الفكر والوجدان
يمثل الإيمان بالغيب القاعدة الأساسية في منظومة النهوض. فهو يحرر الإنسان من ضيق الأفق وسجن المألوف، ويفتح أمامه آفاقاً أوسع للتفكير والتصور. الصوم في جوهره عبادة غيبية، يمارسها الإنسان إيماناً بأن الله يراه ويعلم بحاله، وهذا يعمق الصلة بعالم الغيب.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: "لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا 'تقدمية' وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: (الذين يؤمنون بالغيب) والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين!"
كما أن ليلة القدر التي نتحراها في رمضان تذكرنا بعالم الغيب، فهي ليلة تتنزل فيها الملائكة والروح، وتكون فيها العبادة خيراً من ألف شهر، مما يوسع مدارك المؤمن ويربطه بما وراء المحسوسات.
رمضان إذن يعزز الإيمان بالغيب، ويجعله حضوراً وشهوداً في حياة الإنسان الناهض، فلا يكون أسير المادة والمحسوس، بل متصلاً بعالم المعنى والروح.
المحور الثاني : إقامة الصلاة - تحديد البوصلة والوجهة
الصلاة هي العمود الفقري للعبادات، والصلة المباشرة بين العبد وربه. وفي رمضان، تزداد هذه الصلة عمقاً وامتداداً، مع صلاة التراويح وقيام الليل. الصلاة تمثل البوصلة التي تحدد القبلة والوجهة للإنسان المؤمن، فتوجه طاقاته وقدراته نحو غاية واضحة.
يقول سيد قطب: "ويقيمون الصلاة.. فيتجهون بالعبادة لله وحده، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد، وعبادة الأشياء... والقلب الذي يسجد لله حقا، ويتصل به على مدار الليل والنهار، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق.. وهذا كله مصدر قوة للضمير، كما أنه مصدر تحرج وتقوى، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية، وجعلها ربانية التصور، ربانية الشعور، ربانية السلوك."
الصلاة إذن ليست مجرد حركات وألفاظ، بل هي منهج حياة يربط الإنسان بخالقه، ويجعله يستمد قوته من القوة المطلقة. ورمضان مدرسة لتعميق هذا المحور، وجعله حضوراً دائماً في حياة المسلم بعد انقضاء الشهر.
المحور الثالث: الإنفاق - بناء العمران وتحقيق النهضة
يتوج رمضان المحورين السابقين بمحور عملي هو الإنفاق، الذي يمثل العطاء والبناء والعمران. ولكن مفهوم الإنفاق أوسع من مجرد بذل المال، كما أشار إليه السيد حسين فضل الله رحمه الله بقوله: "ونحن نستطيع أن نستوحي منها، أيضاً، الإنفاق في مجالات أخرى، كإنفاق الجاه والجهد والخبرة وغيرها من الطاقات، لنطلب من الآخرين الذين يملكون أمثال ذلك أن لا يحتكروه لأنفسهم، بل أن يبذلوه لمن يحتاجه من النّاس."
ويؤكد هذا المفهوم الشامل للإنفاق ما جاء في القرآن الكريم: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُد۪يٰهُمْ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ يَهْدِے مَنْ يَّشَآءُۖ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٖ فَلِأَنفُسِكُمْۖ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا اَ۪بْتِغَآءَ وَجْهِ اِ۬للَّهِۖ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٖ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَۖ﴾ [البقرة: 272]. فعبارة ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ تشمل كل أنواع الخير، المادي والمعنوي.
ويتفق مع هذا المفهوم الشامل للإنفاق ما ذكره سيد قطب: "ومما رزقناهم ينفقون.. فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم، لا من خلق أنفسهم؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق، والتضامن بين عيال الخالق، والشعور بالآصرة الإنسانية، وبالأخوة البشرية.. وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح، وتزكيتها بالبر."
رمضان إذن يربي المسلم على الإنفاق بمفهومه الشامل - مالاً وعلماً وجهداً ووقتاً واهتماماً - ويحوله من "أنانية العطاء" إلى "مسؤولية العطاء"، باعتبار أن كل ما نملكه أمانة من الله استخلفنا عليها.
المنظومة المتكاملة: دوائر متضافرة متفاعلة
هذه المحاور الثلاثة تشكل منظومة متكاملة من "دوائر متضافرة متفاعلة"، لا يمكن فصلها أو التعامل معها كعناصر منفصلة:

- الإيمان بالغيب يدفع المؤمن إلى الصلاة
- الصلاة تعمق الإيمان وتدفع إلى الإنفاق
- الإنفاق يزكي النفس ويعزز الإيمان والصلة بالله
وبهذا تكتمل الدورة: تحرير (الإيمان بالغيب)، ثم توجيه (الصلاة)، ثم عمران وبناء (الإنفاق).
هذه المحاور الثلاثة تمثل مجالات الحضور والشهود للإنسان الناهض:
- حضور وشهود في عالم المعنى والروح (الإيمان بالغيب)
- حضور وشهود مع الله تعالى (الصلاة)
- حضور وشهود في عالم الخلق والمجتمع (الإنفاق)
وهي ميادين للفعل الحضاري الناهض، الذي يتجاوز المألوف ويتوجه نحو غاية واضحة، ويسعى لبناء الإنسان والعمران.
 أثر رمضان المستدام
رمضان ليس موسماً عابراً، بل هو محطة لإعادة بناء الإنسان وفق المنظومة الثلاثية (الإيمان بالغيب، إقامة الصلاة، الإنفاق). هذه المنظومة تحقق التوازن بين عالم الروح وعالم المادة، بين العلاقة مع الله والعلاقة مع الخلق.
أثر رمضان الحقيقي يتجلى في استمرار هذه المنظومة المتكاملة في حياة المسلم بعد انقضاء الشهر الكريم، فيكون المسلم دائم الصلة بالغيب، مستمر العبادة لله، مستديم العطاء والإنفاق بمفهومه الشامل.
وبقدر ما نحافظ على هذه المنظومة المتكاملة بعد رمضان، بقدر ما نحقق الغاية من الصيام كما قال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فتكون التقوى حاضرة في كل جوانب حياتنا، ويكون رمضان زائراً دائم الأثر، باقي النفع، مستمر الذكر بعد رحيله.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.