استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

البصائر منهج للإدراك والاستخلاف


تمثل الآية التاسعة عشرة من سورة الجاثية "هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" مفتاح فهم حقيقة التفاعل بين الإنسان والقرآن، وكيف يتولد من هذا التفاعل قوى إدراكية تنير للإنسان طريق الاستخلاف. فالبصائر ليست مجرد معلومات يكتسبها الإنسان، بل هي قدرات إدراكية متكاملة تتشكل من خلال التدبر في آيات الله المقروءة والمنظورة. هذا المقال يسعى لتسليط الضوء على مفهوم البصائر وأهميتها في بناء الإنسان المستخلَف.
قال ابن عاشور رحمه الله:
"وصف الآيات السابقة أو القرآن بالبصائر مجاز عقلي؛ لأن ذلك سبب البصائر. وجمع البصائر: إن كانت الإشارة إلى القرآن باعتبار المتبصرين بسببه كما اقتضاه قوله: {للناس}؛ لأن لكل أحد بصيرته الخاصة، فهي أمر جزئي بالتبع لكَون صاحبِ كل بصيرة جزئياً مشخصاً فناسب أن تُورد جمعاً، فالبصيرة: الحاسَّة من الحواس الباطنة، وهذا بخلاف إفراد {هدى ورحمة}؛ لأن الهدى والرحمة معنيان كليان يصلحان للعدد الكثير قال تعالى: {هدى للناس} [آل عمران: 4] وقال: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} [الأنبياء: 107].
وإنما كان هدى لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده، فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود.
وإنّما كان رحمة لأن في اتباع هديه نجاح الناس أفراداً وجَماعاتٍ في الدنيا؛ لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم، وفي الآخرة لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي. وكان بصائر لأنه يبين للناس الخير والشر ويحَرضهم على الخير ويحذرهم من الشر ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور فعمله عمل البصيرة. وجُعل البصائر للناس؛ لأنه بيان للناس عامة وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون؛ لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته.
وذكر لفظ (قوم) للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين.
والإيقان: العلم الذي لا يتردد فيه صاحبه، وحذف متعلقه؛ لأنه معلوم بما جاءت به آيات الله..."

 حقيقة البصائر: قوة الإدراك القلبي

البصائر جمع بصيرة، وهي كما يقول ابن عطية رحمه الله: "المعتقد الوثيق في الشيء، كأنه مصدر من إبصار القلب". فالبصيرة إذن هي إدراك قلبي عميق يتجاوز الرؤية الظاهرية إلى فهم حقائق الأشياء وجوهرها. وقد وصف القرآن بأن فيه "بيانات ينبغي أن تتحول إلى بصائر"، مما يشير إلى أن هذه البيانات تتحول إلى قوى إدراكية عند تفاعل القلب معها بالتدبر واليقين.
تتميز البصائر عن مجرد المعرفة العادية بأنها راسخة في القلب، توجه السلوك، وتؤثر في الوجدان والسلوك. فهي ليست معلومات عابرة، بل معتقدات وثيقة تنير للإنسان طريقه في الحياة، وتكشف له سنن الله في الكون، وتوضح له حقيقة وجوده وغايته.

علاقة الآيات بالبصائر: من السحاب إلى المطر

تشبه العلاقة بين الآيات القرآنية والبصائر العلاقة بين السحاب والمطر. فكما أن السحاب سبب للمطر الذي يحيي الأرض، فكذلك إذن الآيات سبب للبصائر التي تحيي القلوب. هذا التشبيه يجعلنا نفهم أن الآيات المقروءة والمنظورة هي المادة الخام التي تتشكل منها البصائر من خلال التدبر والتأمل.
فالإنسان حين يتدبر آيات الله، يتولد لديه إدراك عميق لحقائق الوجود وسنن الكون. وكما أن الأرض الطيبة وحدها هي التي تنتفع بالمطر، فكذلك إذن الآيات لا تتحول إلى بصائر إلا عند "قوم يوقنون"، كما ختمت الآية الكريمة.

البصائر والمهمة الاستخلافية: أدوات الفهم والعمل

البصائر ليست مجرد معارف نظرية، بل هي أدوات إدراكية تمكن الإنسان من القيام بواجباته الاستخلافية. فبالبصائر يفهم الإنسان دوره في الكون، ويتفاعل مع الوجود من حوله بعمق ووعي، ويُحسن عمارة الأرض وفق منهج الله.
وقد أشار البقاعي رحمه الله إلى هذا المعنى حين قال: "وهدى أي إلى كل خير قائد، مانع من كل زيغ. ورحمة أي كرامة وفوز ونعمة. لقوم يوقنون أي ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له أبداً". فالبصائر تقود صاحبها إلى كل خير، وتمنعه من الزيغ، وتمكنه من الترقي في درجات العلم والمعرفة.

البصائر والفارق بين أهل الحق وأهل الهوى

تمثل البصائر الفارق الجوهري بين أهل الحق وأهل الهوى. ومن ينظر في السياق الذي وردت فيه الآية يجد أنها جاءت بين تحذير من اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وبين بيان حال من اتخذ إلهه هواه. وكأن القرآن يوضح لنا أن هناك طريقين:
الأول: طريق من يتخذ الآيات مادة خاما لبصائره، فيتولد لديه إدراك قلبي عميق يهديه في حياته.
الثاني: طريق من كان مصدر كسبه المعرفي من هواه، فيكون محجوباً عن الحق، مختوماً على سمعه وقلبه، على بصره غشاوة.
وهذا ما يفسر لنا لماذا قال تعالى "هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ" ثم خصص "وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ". فالآيات متاحة للجميع كمادة خام، لكن الانتفاع بها وتحويلها إلى بصائر هادية يكون على قدر اليقين. فكلما ازداد يقين العبد ازداد انتفاعه بالقرآن وازدادت بصائره.

 البصائر والفهم العميق لسياق الآيات

يتضح معنى البصائر أكثر عند النظر في سياق الآية الكريمة. فهي تأتي بعد قوله تعالى "وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ" وقبل قوله "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ".
فالسياق كله يدور حول الفرق بين من استنارت بصيرته بنور الوحي فكان من المتقين الذين الله وليهم، وبين من اتبع هواه فكان من الظالمين الذين يتولى بعضهم بعضاً. وهذا يوضح لنا أن البصائر ليست مجرد معارف، بل هي قوى إدراكية تغير من واقع الإنسان وتنقله من ظلمات الهوى إلى نور الهداية.

 نحو ثقافة تنمية البصائر

إن فهم حقيقة البصائر كقوى إدراكية تتولد من التفاعل مع آيات الله يفتح أمامنا آفاقاً واسعة لتطوير ثقافة تربوية تركز على تنمية هذه البصائر. فالتربية الحقيقية ليست مجرد حشو للمعلومات، بل هي تنمية للقدرات الإدراكية التي تمكن الإنسان من فهم الواقع والتفاعل معه بإيجابية.
إن تحويل الآيات إلى بصائر هو منهج قرآني متكامل للتعامل مع الوحي، يتجاوز مجرد الحفظ والتلاوة إلى التدبر والتفاعل العميق. وهذا ما يفتح الباب أمام نهضة إسلامية حقيقية تقوم على إنسان يملك بصائر تهديه في طريق الاستخلاف، وتمكنه من تحقيق حق العبودية لله عز وجل.
وختاماً، فإن البصائر التي تمنحها الآيات هي خير زاد للإنسان في رحلته الاستخلافية، فهي تنير له الطريق، وتحصنه من الضلال، وتمكنه من الترقي في مدارج العلم والمعرفة، لتحقيق غاية وجوده كما أرادها الله عز وجل. 


كتب حسان الحميني
 والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.