من طبيعة البشر إذا اعتقدوا شيئًا أرادوا إسماعه للآخرين.
تتجلى هذه الفطرة الإنسانية في سلوك "الناهض" - ذلك الفرد الذي يقف مناصرًا للحق، داعيًا إليه، حريصًا على هداية مجتمعه. يقدم القرآن الكريم نموذجًا لهذا الناهض في قصة صاحب يس، المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى قائلًا: ﴿إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ [يس: 25].
وظيفة الناهض: دفع الضر وجلب النفع
يؤدي الناهض من خلال تبليغه الحق وظيفة محورية في المجتمع تتمثل في:
ـ دفع الضر : تحذير الناس من مخاطر الباطل وعواقبه، حمايتهم من الضلال وآثاره.
ـ جلب النفع : إرشادهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
مفهوم "فاسمعون" في القرآن الكريم
عند تأمل قول الرجل المؤمن ﴿إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾، نجد فيه معاني عميقة شرحها المفسرون:
يقول الزمخشري: "{ءَامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون} يريد فاسمعوا قولي وأطيعوني، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه: أنّ العبادة لا تصحّ إلاّ لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم..."
فالناهض لا يطلب مجرد الاستماع الفيزيائي، بل يطلب الطاعة والاتباع، مستنكرًا الانحراف العقلي الذي يجعل الناس يعبدون من لا ينفع ولا يضر.
ويضيف ابن عاشور: "جملة {إني آمنت بربكم فاسمعون} واقعة موقع الغاية من الخطاب والنتيجة من الدليل... وأكد الإِعلان بتفريع {فاسمعون} استدعاءً لتحقيق أسماعهم إن كانوا في غفلة..."
فـ "فاسمعون" هنا محاولة لإيقاظ الغافلين وتنبيه المعرضين، ودعوة للخروج من الغفلة إلى اليقظة.
ويربط التفسير الأمثل بين هذه الآية وأخرى مشابهة: "وجملة «فاسمعون»... كانت دعوة لهم لاتّباع قوله، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال : (يا قوم اتّبعون أهدكم سبيل الرشاد) غافر 38."
واجب الناهض : المواجهة المباشرة
يقع على عاتق الناهض واجب مواجهة قومه وتذكيرهم بالحق مباشرة، لا أن يكتفي بإيمانه في قلبه. فالإيمان الحقيقي يستتبع العمل بمقتضاه ونشره.
نرى هذا النمط من الناهضين في القرآن متكررًا:
ـ صاحب يس: ﴿إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾
ـ مؤمن آل فرعون: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾
ـ أصحاب الكهف وغيرهم
سنة الله في قيام الناهضين والأمل الذي يبعثونه
يذكرنا حديث رسول الله ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" بأن من سنن الله أن يقوم في وجه الباطل ناهضون في كل عصر.
الحق لا يبقى مغمورًا، بل لابد أن يظهر على لسان مناصريه. هذه السنة الإلهية تحفظ التوازن في الحياة وتديم صراع الحق والباطل، الذي هو جوهر الاختبار في هذه الحياة.
وفي قصة صاحب يس بشارة للمؤمنين، تؤكد أن للخير أهله وللحق مناصريه في كل زمان ومكان. فلا مجال لليأس مهما طغى الباطل، لأن سنة الله تقتضي وجود الناهضين الذين يحملون مشعل الهداية. كما قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5].
شرارة النهضة المجتمعية
لكي ينهض مجتمع بأكمله، لابد من شرارة انطلاق تبدأ الحركة والتغيير. هذه الشرارة غالبًا ما تكون فردًا أو مجموعة صغيرة تمتلك الوعي بالمشكلة والشجاعة للجهر بالحق.
نرى هذا في قصص القرآن:
ـ الرجل المؤمن في سورة يس جاء من أقصى المدينة
ـ مؤمن آل فرعون كان صوتًا منفردًا في بلاط فرعون
ـ أصحاب الكهف اتخذوا قرارًا جريئًا رغم قلة عددهم
هذا يذكرنا بالمفهوم القرآني ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، فالتغيير يبدأ من داخل الأفراد، ثم ينتشر كالشرارة في المجتمع.
مآل الناهض المجاهر بالحق
تكشف الآيات اللاحقة في سورة يس عن مآل الرجل المؤمن: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: 26-27].
هذه الآيات تحمل بشارتين لكل ناهض بالحق:
ـ المآل الحسن : الجنة والمغفرة والإكرام من الله تعالى.
ـ استمرار الرسالة : حتى بعد موته، ظل حريصًا على هداية قومه، ما يعكس إخلاصه وسمو غايته.
ليست القضية مجرد انتصار أو هزيمة وقتية، بل هي قضية مصير أبدي ومكانة عند الله. فالناهض وإن لم ير ثمار دعوته في حياته، فإن الله يكرمه ويجعله من المقربين، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: 30].
إن وجود الناهضين في المجتمع ضرورة حتمية لاستمرار صلاحه وقيامه على أسس سليمة. هؤلاء يمثلون الشرارة التي قد تشعل نار التغيير الإيجابي، فيدفعون الضر ويجلبون النفع.
وكما قال صاحب يس ﴿إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾، فإن على كل من اهتدى إلى الحق أن ينهض بواجب التبليغ، ليكون سببًا في هداية مجتمعه ونهضته، وبذلك يكون قد أدى الأمانة وحقق عمارة الأرض التي استخلفه الله فيها.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.