يحمل القرآن الكريم في طياته نماذج فريدة من الحكمة والتوجيه، تختصر في عبارات موجزة منهجاً متكاملاً للحياة. ومن أبرز هذه النماذج الثلاثية القرآنية الواردة في الآية 199 من سورة الأعراف، حيث يقول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.
في مستهل شهر رمضان المبارك، شهر القرآن والتدبر، نتوقف مع هذه الآية الكريمة التي تضمنت ثلاثية نافعة لكل ناهض في مسيرة الحياة. فرغم قصرها، إلا أنها تمثل منهجاً متكاملاً في بناء الشخصية المتوازنة، وتحمل توجيهات ربانية تجمع بين القوة والحكمة في التعامل مع النفس والمجتمع. فما هي أبعاد هذه الثلاثية؟ وكيف فهمها المفسرون عبر العصور؟
الثلاثية القرآنية ودلالاتها العامة
تتضمن الآية الكريمة ثلاثة أوامر إلهية متكاملة تشكل معاً منهجاً متوازناً في التعامل مع النفس والآخرين. فـ "خذ العفو" تعني التسامح والتيسير في التعامل مع الناس، وقبول ما تيسر من أخلاقهم وأعمالهم دون تشدد. و"أمر بالعرف" تشير إلى الأمر بالمعروف والخير والفضائل المتعارف عليها بين الناس. أما "أعرض عن الجاهلين" فتعني تجنب مجادلة السفهاء والإعراض عن الجهلاء وعدم مقابلة الإساءة بمثلها.
ومن تطبيقات "خذ العفو" في الحياة اليومية: قبول اعتذار المسيء، والتغاضي عن الهفوات البسيطة، والتماس العذر للآخرين. ومن تطبيقات "أمر بالعرف": نشر الخير والفضيلة بالحكمة والموعظة الحسنة، والتوجيه اللطيف للمخطئ. ومن تطبيقات "أعرض عن الجاهلين": ضبط النفس عند الاستفزاز، وتجنب الرد على السفاهة بمثلها، والترفع عن صغائر الأمور.
الناهض الذي يبني شخصيته في ضوء هذه الثلاثية يحقق توازناً فريداً بين القوة والحكمة، فهو يمتلك القوة في الأخذ لكنه يأخذ بالعفو، ويمتلك القوة في الأمر لكنه يأمر بالمعروف، ويمتلك القوة في الإعراض وهو يعرض عن الجاهلين. فلا هو ضعيف في تسامحه، ولا متعالٍ في أمره بالمعروف، ولا منسحب في إعراضه، إنما هو قوي في كل هذه الجوانب، قوة منضبطة بالحكمة والأخلاق.
القشيري والتفسير العرفاني للآية
يقدم الإمام القشيري رحمه الله تفسيراً عرفانياً عميقاً للآية، يتجاوز المعنى الظاهر إلى أبعاد روحية أعمق. يقول: "من خصائص سُنَّةِ الله في الكرم أنه أمر نبيَّه -صلوات الله عليه وعلى آله- بالأخذ به، إذ الخبر وَرَدَ بأنَّ المؤمن أخذ من الله خُلُقاً حسناً. وكلما كان الجُرْمُ أكبرَ كان العفو عنه أجرَّ وأكمل، وعلى قَدْرِ عِظَم رتبة العبد في الكرم يتوقف العفو عن الأصاغر والخدم."
ويربط القشيري بين العفو وخُلق الله الكريم، موضحاً أن قيمة العفو تعظم بعظم الجرم، ويستشهد بموقف النبي ﷺ في غزوة أحد حين دعا لقومه بالمغفرة رغم ما أصابه منهم.
أما في تفسير "وأمر بالعرف"، فيرى القشيري أن "أفضل العرف أن يكون أكمل العطاء لأكثر أهل الجفاء، وبذلك عامل الرسول -صلى الله عليه وعلى آله- الناسَ." وفي تفسير "وأعرض عن الجاهلين"، يرتقي بالمعنى إلى آفاق روحية عالية فيقول: "الإعراض عن الأغيار بالإقبال عن من لم يَزْل ولا يزال، وفي ذلك النجاة من الحجاب، والتحقق بما يتقاصر عن شرحه الخطاب."
بهذا التفسير العرفاني، يحول القشيري الآية من مجرد توجيهات سلوكية إلى منهج روحي متكامل في التزكية والارتقاء بالنفس نحو معرفة الله والقرب منه، مؤكداً على البعد الروحي العميق لهذه الثلاثية وارتباطها بمقامات السلوك إلى الله تعالى.
ابن عطية والتفسير اللغوي التطبيقي
في انتقال من البعد العرفاني إلى البعد اللغوي والتطبيقي، يقدم ابن عطية الأندلسي رحمه الله تفسيراً يجمع بين اللغة والتطبيق العملي، فيقول: "وقوله تعالى: {خذ العفو...} وصية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وأخذ بجميع مكارم الأخلاق، وقال الجمهور في قوله {خذ العفو} إن معناه اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفواً دون تكلف، فالعفو هنا الفضل والصفو الذي تهيأ دون تحرج."
ويبين ابن عطية أن "العرف" هو "كل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة"، أما "وأعرض عن الجاهلين" فيعتبره "حكم مترتب محكم مستمر في الناس ما بقوا."
يتميز تفسير ابن عطية بالاهتمام بدلالات الألفاظ اللغوية وربطها بالواقع التطبيقي، مما يجعل فهم الآية أكثر ارتباطاً بحياة الناس اليومية وتعاملاتهم المعتادة، مركزاً على المعاني اللغوية والشرعية المباشرة للآية مع ربطها بالتطبيق العملي في الحياة.
القرطبي وتفسير الأحكام
وبالانتقال من التفسير اللغوي إلى تفسير الأحكام، يتميز تفسير الإمام القرطبي رحمه الله بالتركيز على الأحكام الشرعية والتطبيقات العملية، ويبين أن هذه الآية القصيرة تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، حيث يقول:
"هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله: "خذ العفو" دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: "وأمر بالعرف" صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار."
ويضيف في تفسير "وأعرض عن الجاهلين": "أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم، صيانة له عليهم ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وهذا وإن كان خطابا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه."
يبرز تفسير القرطبي المعاني الشرعية العملية للآية، موسعاً مدلولات الألفاظ لتشمل مساحة أكبر من السلوك والأخلاق والأحكام التي تنظم علاقة الإنسان بربه ومجتمعه، ويقدم تطبيقات متنوعة لكل جزء من الثلاثية في مختلف مجالات الحياة.
السعدي والتفسير الميسر المعاصر
وفي ربط بين التفاسير القديمة والواقع المعاصر، يمتاز تفسير الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله بالوضوح والتبسيط وربط المعاني بالواقع المعاصر، فيقول:
"هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل."
ويوسع مفهوم "وأمر بالعرف" ليشمل: "كل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد"، ويضرب أمثلة عملية لذلك: تعليم العلم، الحث على الخير، صلة الرحم، بر الوالدين، الإصلاح بين الناس، النصيحة النافعة.
وفي تفسير "وأعرض عن الجاهلين" يقدم قاعدة ذهبية: "من آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه."
يتميز تفسير السعدي بالبساطة والوضوح مع عمق المعنى، وربط الآية بواقع الناس المعاصر وتقديم أمثلة عملية يمكن تطبيقها في الحياة اليومية، مما يجعل الآية أكثر قرباً وتأثيراً في حياة المسلم المعاصر.
سيد قطب والسياق التاريخي للآية
وإتماماً للنظرة الشمولية للآية، يضع سيد قطب رحمه الله الآية في سياقها التاريخي وسياق السورة، فيقول:
"تجيء هذه التوجيهات الربانية في نهاية السورة، من الله سبحانه إلى أوليائه.. رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه.. وهم بعد في مكة؛ وفي مواجهة تلك الجاهلية من حولهم في الجزيرة العربية وفي الأرض كافة.. هذه التوجيهات الربانية في مواجهة تلك الجاهلية الفاحشة، وفي مواجهة هذه البشرية الضالة، تدعو صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم إلى السماحة واليسر، والأمر بالواضح من الخير الذي تعرفه فطرة البشر في بساطتها، بغير تعقيد ولا تشديد. والإعراض عن الجاهلية فلا يؤاخذهم، ولا يجادلهم، ولا يحفلهم."
بهذا الفهم السياقي، يبين سيد قطب أن هذه الآية تمثل منهج الدعوة الإسلامية في مرحلة مكية، وهي توجيهات للتعامل مع المجتمع الجاهلي بالسماحة واليسر مع الثبات على المبدأ، مركزاً على دور هذه الثلاثية في مواجهة التحديات الدعوية في المجتمعات المعاصرة.
يختلف منهج سيد قطب عن المفسرين السابقين في تركيزه على البعد الحركي والدعوي للآية، وربطها بمنهج التغيير الإسلامي، مما يفتح آفاقاً جديدة لفهم الآية في سياق التحديات المعاصرة التي تواجه الدعوة الإسلامية.
تطبيقات الثلاثية في حياتنا المعاصرة
تقدم لنا الآية الكريمة ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ منهجاً متكاملاً في التعامل مع النفس والآخرين، وقد تناولها المفسرون بمناهج متنوعة: فمنهم من غاص في أبعادها الروحية كالقشيري، ومنهم من ركز على معانيها اللغوية والتطبيقية كابن عطية، ومنهم من استخرج منها الأحكام العملية كالقرطبي، ومنهم من قربها للواقع المعاصر كالسعدي، ومنهم من وضعها في سياقها التاريخي والدعوي كسيد قطب.
وفي شهر رمضان المبارك، تزداد أهمية تطبيق هذه الثلاثية الربانية، فهي تساعد الصائم على:
- ضبط النفس وتهذيبها من خلال العفو والتسامح مع الآخرين، مما يعزز روح الأخوة والتراحم في المجتمع.
- نشر الخير والمعروف بالحكمة والموعظة الحسنة، مما يساهم في تكوين بيئة رمضانية إيجابية.
- تجنب الجدال العقيم والمهاترات التي تفسد أجواء الصيام، والتركيز على الجوانب الروحية.
ويمكننا تطبيق هذه الثلاثية في حياتنا اليومية من خلال:
1- في مجال الأسرة : التعامل برفق مع أفراد الأسرة، والتغاضي عن هفواتهم، والأمر بالمعروف بلطف، وتجنب الجدال العقيم.
2- في مجال العمل : التعاون مع الزملاء، وتقبل الاختلاف، ونشر ثقافة الإيجابية، والإعراض عن السلبيين.
3- في المجال الاجتماعي : التسامح مع الأصدقاء والجيران، والمشاركة في الأعمال الخيرية، وتجنب النزاعات الشخصية.
4- في مجال مواقع التواصل الاجتماعي : نشر المحتوى الإيجابي، وتجنب الرد على التعليقات السلبية، والدعوة للخير بالحكمة.
فما أحوجنا إلى تمثل هذه الثلاثية في حياتنا اليومية، لنكون كما أراد الله لنا: آخذين بالعفو، آمرين بالمعروف، معرضين عن الجاهلين، نجمع بين القوة والرحمة، بين الصلابة في المبدأ واللين في المعاملة، وبين الثبات على الحق والرفق في الدعوة إليه.
كتب حيان الحميني
والله الموفق.