في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيرات الاقتصادية العالمية، وتتشابك فيه مصالح الدول والشعوب، يبرز مفهوم الاكتفاء الذاتي كأحد أهم الركائز لتحقيق التنمية المستدامة والمستقلة. وما يثير الاهتمام أن هذا المفهوم الذي تتبناه اليوم نظريات التنمية الحديثة، قد أسس له الهدي النبوي بوضوح وعززته حكمتنا الشعبية المتوارثة عبر الأجيال.
تأصيل نبوي للاكتفاء الذاتي
يُعد الحديث النبوي الشريف "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها" تأسيساً نبوياً عميقاً لمفهوم الاكتفاء الذاتي والتنمية المستقلة.
يضع الحديث الشريف ثلاثة أركان أساسية للحياة الكريمة:
- - الأمن والاستقرار (آمناً في سربه)
- - الصحة والعافية (معافى في جسده)
- - الاكتفاء الاقتصادي (عنده قوت يومه)
والملاحظ أن الحديث يعتبر توفر الاحتياجات الأساسية (القوت اليومي) مساوياً لحيازة الدنيا بأكملها، في إشارة واضحة إلى أن الاكتفاء الذاتي هو أساس الكرامة والحرية الحقيقية، وأن الغنى الحقيقي ليس في كثرة المال، بل في تحقيق الاستقلالية والأمان.
حكمة شعبية تعزز الرؤية النبوية
تتجلى الرؤية النبوية للاكتفاء الذاتي في المثل الشعبي المغربي: "لي ما عندو عولة في التليس ما عندو لا جمعة لا خميس". هذا المثل يختزل فلسفة عميقة تعزز المفهوم النبوي للاكتفاء والإنتاج. ظاهر المثل يشير إلى أن من لا يملك مؤونته (عولة) في جراب سفره (التليس)، لا يستحق أيام العطلة والراحة.
لكن المثل في عمقه يتجاوز هذا المعنى البسيط ليؤكد الرؤية النبوية ويجسدها في واقع الحياة اليومية. يخبرنا أن فقدان القدرة على تأمين الاحتياجات الأساسية ذاتياً (القوت اليومي في الحديث النبوي) يؤدي حتماً إلى فقدان حرية القرار والاختيار، بدءاً من أبسط الأمور (تحديد أوقات الراحة) وصولاً إلى أخطرها (السياسات الاستراتيجية).
من الفرد إلى المجتمع
ما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع بأسره. فالمجتمع الذي يعجز عن تأمين احتياجاته الأساسية يفقد تدريجياً سيادة قراره واستقلالية توجهاته. تبدأ التنازلات بخطوات صغيرة قد لا تبدو ذات أهمية (كتغيير أيام العطل الأسبوعية)، لكنها سرعان ما تمتد لتشمل المفاصل الحيوية للهوية والسيادة:
- - التعليم: فرض مناهج ولغات قد لا تتوافق مع الهوية الوطنية
- - القانون: تبني تشريعات تتعارض أحياناً مع القيم المجتمعية
- - الثقافة: استيراد أنماط استهلاكية وقيم دخيلة
- - الاقتصاد: الارتهان لشروط المؤسسات المالية العالمية
الاكتفاء الذاتي: تحصين للنهضة
يصبح الاكتفاء الذاتي، بهذا المفهوم، ليس مجرد سياسة اقتصادية، بل هو استراتيجية شاملة لتحصين مسيرة النهضة من "الأفخاخ" التي تعترض طريقها. المجتمع المكتفي ذاتياً في احتياجاته الأساسية يمتلك:
1- قرار سيادي مستقل : لا يخضع للابتزاز الاقتصادي أو السياسي
2- هوية ثقافية محصنة : قادرة على التفاعل الإيجابي مع الآخر دون ذوبان
3- قدرة على الابتكار : تنبع من الثقة بالذات والاعتماد على الموارد المحلية
4- استدامة تنموية : تضمن استمرارية المشروع النهضوي عبر الأجيال
نحو اكتفاء ذاتي مجتمعي
لتحقيق هذه الرؤية، نحتاج إلى:
1- تشمير جماعي : العمل الجاد وثقافة الإنتاج بدلاً من الاستهلاك
2- توظيف الموارد المحلية : الاستفادة القصوى من الإمكانات المتاحة
3- تعزيز التكامل الاقتصادي : بين مختلف فئات المجتمع وقطاعاته
4- استثمار في التعليم والبحث العلمي : لتطوير حلول مبتكرة نابعة من البيئة المحلية
5- ترشيد الاستهلاك : والتركيز على الأولويات الحقيقية
نخلص إذا :
في الحديث النبوي الشريف "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها"، الذي تعززه حكمتنا الشعبية في المثل "لي ما عندو عولة في التليس ما عندو لا جمعة لا خميس"، خارطة طريق متكاملة لنهضة مستدامة ومستقلة.
لقد سبقت تعاليمنا الدينية، التي جسدتها الحكمة الشعبية في أمثالها، النظريات الاقتصادية الحديثة في إدراك العلاقة الوثيقة بين الاكتفاء الذاتي والسيادة الوطنية. واليوم، نحن أحوج ما نكون إلى استلهام هذا الهدي النبوي وتطبيقه في واقعنا المعاصر لبناء مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة.
النهضة الحقيقية لا تُستورد، بل تُبنى بسواعد أبناء الوطن وعقولهم، انطلاقاً من هويتهم وتاريخهم، ومعتمدين على مواردهم الذاتية. هكذا تعلمنا الحكمة الشعبية، وهكذا يرشدنا الهدي النبوي.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.