في خضم البحث عن أسباب نهوض الحضارات وانهيارها، قد نجد في التراث الإسلامي كنوزاً من المعرفة تلقي الضوء على هذه الظاهرة. من بين هذه الكنوز، نقف عند تأمل عميق للإمام الحرالي في معنى التقوى، نقله عنه الإمام البقاعي في تفسيره لقوله تعالى: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ" [البقرة: 2].
التقوى في فهم الحرالي
قال الحرالي: "جمع المتقي وهو المتوقف عن الإقدام على كل أمر لشعوره بتقصيره عن الاستبداد وعلمه بأنه غير مستغن بنفسه فهو متق لوصفه وحسن فطرته والمتقى كذا متوقف لأجل ذلك، والتقوى أصل يتقدم الهدى وكل عبادة، لأنها فطرة توقف تستحق الهدى وكل خير وهي وصية الله لأهل الكتاب."
هذا النص المُكثّف يحمل رؤية عميقة للتقوى تتجاوز المفهوم السطحي لها كمجرد خوف، إلى كونها حالة وعي وإدراك للذات في علاقتها بالله والوجود. المتقي وفق هذا الفهم يمتاز بالتوقف عن الإقدام على الأمور عندما يشعر بحدود معرفته وقدراته، فهو محترز دائماً من الاستبداد بالرأي والاعتماد المطلق على الذات. كما يتميز بإدراكه العميق بأنه غير مستغنٍ عن الله وعن الآخرين، وهذه التقوى متأصلة في فطرته السليمة التي تجعله واعياً بحدوده وإمكاناته.
الأنا المتضخمة: نقيض التقوى
ما يطرحه الحرالي يضعنا أمام مفهوم عميق للتقوى كنقيض للأنا المتضخمة. هذه الأنا تتجلى في ظاهرتين خطيرتين: الاستبداد والاستغناء. الاستبداد يتمثل في الاعتقاد بامتلاك الحق المطلق والمعرفة الكاملة، بينما يتجلى الاستغناء في التوهم بعدم الحاجة إلى الآخر، سواء كان هذا الآخر هو الله أو الناس.
وقد ضرب القرآن أمثلة بليغة لهذه الأنا المتضخمة، فالشيطان قال: "أنا خير منه" مستبداً برأيه ومستغنياً عن أمر الله، وفرعون تجاوز كل الحدود بقوله: "أنا ربكم الأعلى"، أما قارون فقد نسب الفضل لنفسه قائلاً: "إنما أوتيته على علم عندي". هذه النماذج الثلاثة تجسد الأنا في أعلى درجات طغيانها، وتكشف عن خطورة الاستبداد والاستغناء على الفرد والمجتمع.
تجليات الأنا المتضخمة في المجتمعات المتخلفة
ومن تجليات هذا التضخم للأنا ما نراه في البلدان المتخلفة من كسل وخمول والانكفاء على الذات والانشغال بها، وكذلك ظهور وتغول إنسان الحقوق وإنسان الانتظار. فالمجتمعات التي تعاني من الأنا المتضخمة تفقد روح المبادرة والإنتاج، وتنتظر الحلول من الخارج دون بذل الجهد المطلوب للنهوض. كما تتجلى هذه الأنا في شخصية "إنسان الحقوق" الذي يطالب دائماً بما له دون أن يفكر فيما عليه من واجبات، و"إنسان الانتظار" الذي يعيش حالة من الكسل والخمول منتظراً أن يأتيه الفرج من جهة أخرى دون أن يسعى إليه بنفسه.
الطغيان: السم القاتل للحضارات
الأنا المتضخمة تقود حتماً إلى الطغيان الذي يُعد سماً قاتلاً للحضارات. فكلما ظهر الطغيان متمثلاً في الاستبداد والاستغناء، كان ذلك إعلاناً لبداية انهيار الحضارة.
عند تأمل تاريخ الحضارات نجد أن منحنى سقوطها غالباً ما يبدأ مع تسلل الطغيان إلى مختلف مناحي الحياة. فحين يستبد الحكام والقادة برأيهم ويستغنون عن المشورة، وحين تستغني المجتمعات عن القيم والأخلاق وتستبد بتفسير الحياة وفق أهوائها، وحين تتوهم النظم الفكرية والثقافية امتلاك الحقيقة المطلقة وتنغلق على نفسها، تكون الحضارة قد بدأت رحلة الانحدار.
والمفارقة المؤلمة أن هذا الطغيان غالباً ما يظهر في أوج قوة الحضارات، حين تظن أنها بلغت ذروة التقدم والكمال. فالغرور بالإنجازات والثقة المفرطة بالقدرات والإمكانات تدفع الحضارة إلى تجاوز حدودها والوقوع في فخ الاستبداد والاستغناء، وهنا تبدأ رحلة السقوط.
التقوى كصمام أمان للحضارات
التقوى بمفهومها العميق كما شرحه الحرالي تُعد صمام أمان فعّال ضد الأنا المتضخمة والطغيان الناتج عنها. هذا الصمام يعمل على مستويات متعددة ومتكاملة، فعلى المستوى الفردي، تجعل التقوى الإنسان يتوقف عند حدوده، وتُذكّره باستمرار بأنه غير مستغنٍ بنفسه، مما يحافظ على توازنه النفسي والروحي.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن المجتمع المتقي يتحلى بالحذر من الاستبداد بالرأي والاستغناء عن الآخرين، مما يجعله منفتحاً على الحوار والتعاون والتكامل. وهذا الانفتاح يعزز التماسك الاجتماعي ويقوي العلاقات بين مكونات المجتمع المختلفة.
وعلى المستوى الحضاري الأشمل، تدرك الحضارة القائمة على التقوى حدودها الطبيعية وتبقى منفتحة على التعلم والتطور، دون غرور أو ادعاء الكمال. وهذا الإدراك يجعلها قادرة على الاستفادة من التجارب الإنسانية المختلفة والتفاعل الإيجابي مع الحضارات الأخرى.
لذلك جاءت "هدى للمتقين" في القرآن الكريم بهذا الترتيب الدقيق. فالتقوى تهيئ الإنسان والمجتمع لتلقي الهدى واستمرار النمو، لأنها تضمن عدم تضخم الأنا الذي يغلق أبواب المعرفة ويعيق تطور الحضارات.
التقوى والصيام: ترويض الأنا في مدرسة رمضان
وفي سياق الحديث عن التقوى كصمام أمان ضد الأنا المتضخمة، يبرز شهر الصيام بوصفه مدرسة عملية لترويض النفس وتهذيبها. فقد جعل الله التقوى مقصداً أساسياً للصيام في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". ويتجلى هذا الترابط العميق بين الصيام والتقوى في كون الصائم يمارس عملياً حالة "التوقف" التي ذكرها الحرالي، فيتوقف عن الطعام والشراب والشهوات رغم قدرته عليها، محترزاً من الاندفاع وراء رغباته. وفي هذا التوقف تدريب فعّال على كبح جماح الأنا وضبط مساراتها.
كما أن الصيام يعالج بشكل مباشر ظاهرتي الاستبداد والاستغناء اللتين تمثلان جوهر الأنا المتضخمة. فالجوع والعطش يذكّران الإنسان باستمرار بحاجته وافتقاره، فيتخلص تدريجياً من وهم الاستغناء الذي يغذي الأنا. والامتناع عن الملذات المباحة خلال النهار يعلمه التريث والأناة، فيقل ميله للاستبداد بالرأي والاندفاع خلف هواه.
ولعل من أبرز فوائد الصيام معالجته لظاهرتي "إنسان الحقوق" و"إنسان الانتظار" اللتين أشرنا إليهما سابقاً. فالصائم يتحول من إنسان يطالب بحقوقه إلى إنسان يؤدي واجباته، ومن إنسان ينتظر العطاء إلى إنسان يبادر بالبذل والإحسان. وهكذا يساهم شهر الصيام في إعادة التوازن للمجتمع وتخليصه من آفات الكسل والخمول والانكفاء على الذات.
وبما أن "التقوى أصل يتقدم الهدى" كما قال الإمام الحرالي، فإن شهر رمضان يمثل موسماً للهدى، إذ أنزل فيه القرآن "هدى للناس"، والصائم بتقواه المكتسبة من الصيام يكون أكثر استعداداً لتلقي هذا الهدى والانتفاع به. وهكذا يتكامل المسار من التقوى إلى الهدى، فيصبح شهر الصيام بمثابة ورشة سنوية لإصلاح الأنا وترويضها، وتخليص المجتمع والحضارة من سموم الاستبداد والاستغناء.
دروس للناهض
لكل من يسعى للنهوض بنفسه أو مجتمعه أو أمته، تقدم رؤية الحرالي للتقوى دروساً عميقة ومتكاملة. فالوعي بالحدود يمثل بداية الطريق نحو التقوى الحقيقية، حيث يدرك الإنسان والمجتمع أن لكل منهما حدوداً معرفية وقدرات محدودة، وهذا الإدراك يحميه من التوهم والغرور.
ويأتي الحذر من الاستبداد كثمرة طبيعية لهذا الوعي، فيتجنب الإنسان والمجتمع الانغلاق على الذات والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، ويظل منفتحاً على الآراء والأفكار المختلفة. ويكمل هذا المسار نبذ الاستغناء، حيث يعترف الإنسان والمجتمع باستمرار بالحاجة إلى الله وإلى الآخرين، وهذا الاعتراف يفتح آفاق التعاون والتكامل على مختلف المستويات.
ويمثل تهذيب الأنا محوراً أساسياً في هذا المسار، فيعمل الإنسان والمجتمع باستمرار على ضبط الأنا وتهذيبها، لتكون أداة بناء لا أداة هدم. وتتويجاً لهذا المسار، يأتي الانفتاح على الهدى، حيث يبقى الإنسان والمجتمع في حالة استعداد دائم لتلقي المعرفة الجديدة والحكمة أينما وُجدت.
هذه الدروس ليست مجرد تعاليم دينية، بل هي استراتيجية حضارية متكاملة لمن أراد النهوض والاستمرار. فالتقوى بهذا المفهوم تصبح منهجاً للتفكير والسلوك، يحمي الإنسان والمجتمع من سموم الأنا المتضخمة ويفتح له أبواب الهدى والتقدم المستمر.
"والتقوى أصل يتقدم الهدى وكل عبادة" - الإمام الحرالي،
كتب حسان الحميني
والله الموفق.