الناهضُ هو ذلك الإنسان صاحب الشعور المرهف والحس الدقيق الذي يستشعر الفساد عن قرب، فيكون مستعداً للعودة بمجتمعه إلى الحق والصواب. إنه يمتلك حاسة خاصة تمكنه من رؤية مظاهر الخلل والفساد في وقت مبكر، وتدفعه للعمل على إصلاحها قبل أن تستفحل وتصبح أكثر تعقيداً.
وفي هذا السياق، تأتي الآية الكريمة من سورة الروم لتؤصل هذا المفهوم وتضع إطاراً إلهياً يفسر العلاقة بين الفساد وأسبابه ونتائجه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
حقيقة الفساد وأسبابه
يقدم الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره "جامع البيان" تفسيراً شاملاً لمعنى الفساد، حيث يقول: "ظهرت معاصي الله في كل مكان، من برّ وبحر... بذنوب الناس، وانتشر الظلم فيهما". وهذا يوضح أن الفساد ليس مجرد ظاهرة محدودة، بل هو انتشار للمعاصي والظلم في جميع أنحاء الأرض.
ويؤكد ابن القيّم رحمه الله في كتابه "الجواب الكافي" على العلاقة السببية بين الذنوب والفساد، حيث يقول: "كل ما أحدثوا ذنبًا، أحدث لهم عقوبة"، وينقل عن بعض السلف قولهم: "كل ما أحدثتم ذنبًا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة". فالفساد الذي يظهر في الأرض هو نتيجة مباشرة للذنوب والمعاصي التي يرتكبها الناس.
ويضيف أبو العالية كما نقل عنه ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم": "مَنْ عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة". وهذا يشير إلى أن المعصية نفسها هي فساد، وأن الطاعة هي أساس الصلاح.
والمعصية هنا لا تقتصر على الكبائر فقط، بل تشمل كل ما يخالف أمر الله، بما في ذلك هدر الوقت، وإهدار مقدرات المجتمع، والجهل بالسنن الكونية والاجتماعية التي وضعها الله تعالى.
معنى ظهور الفساد
يقدم الإمام الطوسي رحمه الله في كتابه "التبيان في تفسير القرآن" تعريفًا دقيقًا لمعنى الظهور، حيث يقول: "الظهورُ: خروج الشيء إلى حيث يقع عليه الإحساس والعلم به بمنزلة الإدراك له". وهذا يعني أن الفساد يصبح محسوسًا ومدركًا، وليس مجرد شيء خفي.
ويضيف: "وقد يظهر الشيء بخروجه عن وعاء أو وجوده عن عدم أو ظهوره بدليل". وهذا يشير إلى أن الفساد قد يظهر بطرق مختلفة - قد يكون مخفيًا ثم يتكشف، أو يتولد بعد أن لم يكن، أو يُستدل عليه بآثاره.
وهذا الظهور ليس عشوائيًا، كما يؤكد سيد قطب رحمه الله في "في ظلال القرآن": "ظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثًا، ولا يقع مصادفةً؛ إنما هو تدبير الله وسنته". فهناك قانون إلهي يحكم ظهور الفساد وانتشاره.
الحكمة من ظهور الفساد
يبين الطبري رحمه الله الحكمة من ظهور الفساد في قوله: "ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا، ومعصيتهم التي عَصَوا". وهذا يشير إلى أن ظهور الفساد هو نوع من العقوبة على المعاصي.
لكن هذه العقوبة ليست للانتقام، بل للإصلاح، كما يشير البقاعي رحمه الله في "نظم الدرر": "استعطافًا للتوبة". فالهدف النهائي هو دفع الناس للتوبة والرجوع إلى الله.
ويوضح سيد قطب رحمه الله هذا المعنى بقوله: "ليذيقهم بعض الذي عملوا من الشر والفساد، حينما يكتوون بناره، ويتألمون لما يصيبهم منه: لعلهم يرجعون". فالألم الناتج عن الفساد هو جزء من العلاج الذي يدفع الناس للرجوع إلى الله.
معنى الرجوع وأنواعه
يشرح الماتريدي رحمه الله في "تأويلات أهل السنة" معنى الرجوع في قوله: "يرجع من كان بعدهم، ويتعظون بهم". وهذا يشير إلى أن الرجوع لا يقتصر على المعاصرين، بل يشمل الأجيال القادمة التي تتعظ بما حدث.
وينقل عن قتادة قوله: "لعل راجعًا يرجع، لعل تائبًا يتوب، لعل مستغيثًا يستغيث". وهذا يوضح تنوع أنماط الاستجابة للفساد - فهناك من يتوب، وهناك من يستغيث طلبًا للمساعدة، وهناك من يعود إلى الطريق المستقيم.
ويحدد سيد قطب رحمه الله ثلاثة أبعاد للرجوع: "فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم". فالرجوع يشمل العودة إلى الله، والعمل الصالح، والالتزام بالمنهج القويم.
دور الناهض في استشعار الفساد
الناهضُ هو من يمتلك حاسة مرهفة تمكنه من استشعار الفساد قبل استفحاله، وهذه الحاسة تتجاوز اللحظة الراهنة، فهو:
يستوعب دروس التاريخ : يتأمل في تجارب الأمم السابقة ويعتبر بمصائرها، فيرى كيف ظهر الفساد سابقًا وكيف كانت نتائجه.
يدرك الواقع بعمق : لا يكتفي بالنظر السطحي للأحداث، بل يتغلغل في أسبابها وجذورها الحقيقية.
يستشرف المستقبل : يتوقع مآلات الأمور إذا استمر الفساد، ويرى الطريق نحو الإصلاح والرجوع.
مسؤولية الناهض في مواجهة الفساد
الناهضُ لا يكتفي باستشعار الفساد، بل يتحمل مسؤولية مواجهته وإصلاحه. ومن أهم مسؤولياته المبادرة إلى تعطيل الفساد وتحييده في مراحله المبكرة، قبل أن يستفحل ويصعب علاجه. فالاستشعار المبكر للفساد يمنح الناهض فرصة ثمينة للتدخل السريع والفعّال، وكلما كان التدخل مبكرًا، كانت نتائجه أفضل وتكاليفه أقل.
وتشمل مسؤولية الناهض في مواجهة الفساد:
إصلاح القلوب والعقائد : يدرك الناهض أن الفساد الخارجي هو انعكاس للفساد الداخلي، وبالتالي يهتم بإصلاح القلوب والعقائد بقدر اهتمامه بمعالجة المظاهر الخارجية للفساد.
نشر الوعي بقيمة الوقت : يعمل على توعية المجتمع بأهمية الوقت وضرورة استثماره فيما ينفع، لأن هدر الوقت هو أحد أشكال المعصية.
الحفاظ على موارد المجتمع : يسعى للحفاظ على موارد المجتمع وترشيد استخدامها، ومكافحة الإسراف والهدر.
تعليم السنن الكونية والاجتماعية : يعمل على نشر الوعي بالسنن الكونية والاجتماعية التي وضعها الله في الكون، والتي تحكم سير الحياة والمجتمعات.
مكافحة الجهل والتخلف : يسعى لنشر العلم والمعرفة، ومكافحة الجهل والتخلف اللذين يُعَدَّان من أسباب الفساد.
الناهضُ هو ذلك الإنسان الذي يمتلك حاسة الاستشعار المرهفة التي تمكنه من رؤية الفساد في بداياته، ويتحمل مسؤولية مواجهته وإصلاحه. وهو يدرك أن الفساد ليس مجرد ظاهرة عشوائية، بل هو نتيجة للمعاصي والذنوب، وأن الهدف من ظهوره هو دفع الناس للتوبة والرجوع إلى الله.
والناهضُ يعمل على تحقيق هذا الرجوع من خلال إصلاح القلوب والعقائد، ونشر الوعي بقيمة الوقت، والحفاظ على موارد المجتمع، وتعليم السنن الكونية والاجتماعية، ومكافحة الجهل والتخلف. كما أنه يتخذ خطوات استباقية لتعطيل الفساد وتحييده في مراحله المبكرة، مدركًا أن وقاية المجتمع من الفساد أفضل وأيسر من علاجه بعد استفحاله.
وبهذا، فإن الناهضَ هو حارس المجتمع وضميره الحي، الذي يقف في وجه الفساد ويعمل على إعادة المجتمع إلى الصلاح والاستقامة، مستندًا في ذلك إلى فهم عميق لآيات الله وسننه في الكون والمجتمع.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.