استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الناهض بين الصومعة والسوق: (في منهج التأثير الإصلاحي)


يواجه كل مصلح أو ناهض بالمجتمع سؤالاً جوهرياً يتردد في فكره: أيهما أقوى تأثيراً وأعظم أثراً - الانعزال في صومعته للتأمل والتفكر، أم الانخراط في المجتمع ومخالطة الناس بمختلف فئاتهم وتوجهاتهم؟ وهل يمكن الجمع بينهما؟
هذا السؤال ليس جديداً، بل هو قديم قِدَم المحاولات الإصلاحية نفسها، وقد أجابت عنه آيات القرآن الكريم إجابة شافية تتجلى في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: 20].
 سياق الآية ودلالاتها
نزلت هذه الآية رداً على اعتراض المشركين الذين استغربوا بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا متسائلين: ﴿مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: 7].
يقول الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين - نزلت جواباً للمشركين حيث قالوا: 'مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق'".
وهنا يلفت ابن عاشور النظر إلى منطق المشركين المغالط قائلاً: "فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم".
وفي هذا السياق يضيف ابن عاشور ملاحظة مهمة عن العلاقة بين المخالطة والدعوة: "وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس... وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم".
التأكيدات اللغوية ودلالاتها
يلفت ابن باديس الانتباه إلى البناء اللغوي المحكم للآية فيقول: "وما أرسلنا قبلك رجالاً من المرسلين إلا حالة أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق: أي ما أرسلناهم في حالة من الأحوال إلا في هذه الحال. وإِنْ واللام والحصر بما وإلا، كل هذه لتأكيد المعنى الذي سيق إليه الكلام، وهو إثبات أن رسول البشر لا يكون إلا بشراً رداً على منكري ذلك المشركين".
ثم يشير إلى دلالة استخدام الفعل المضارع فيقول: "وعبر بالمضارع في يأكلون ويمشون؛ لأنهما من ضروريات بشريتهم، فهو يتجدد ويتكرر منهم. وأكل الطعام والمشي في الأسواق كناية عن البشرية، لأنهما وصفان لازمان لها".
حكمة المخالطة والتواصل
يستخلص ابن باديس حكمة كون الرسول من جنس المرسل إليهم قائلاً: "وعلمنا أن الرسول لا يكون إلا من جنس المرسل إليهم، ليحصل الاتصال، ويمكن التلقي". وهذه إشارة دقيقة إلى أن المخالطة والمشاركة شرط أساسي للتأثير والإصلاح.
فالرسل والأنبياء - وهم القدوة - لم يكونوا معزولين عن مجتمعاتهم، بل كانوا في قلب الحدث، يعيشون هموم الناس ويشاركونهم معاشهم، وهذا هو السر في قدرتهم على التأثير والتغيير.
الناهض بين المثالية والواقعية
ومع ذلك، فإن هذه المخالطة لا تعني الذوبان في المجتمع وفقدان الخصوصية الروحية والفكرية. يقول ابن باديس: "وعلمنا: أن الرسل وإن كانوا موافقين لنا في الخلقة البشرية.. فإنهم مباينون لنا غاية المباينة في الخلقة النفسية، من حيث الطهر والكمال".
وهنا تتجلى نقطة التوازن الحاسمة: أن الناهض الحقيقي يعيش بين الناس بجسده، لكنه يحافظ على استقلالية روحه وفكره وقيمه، وهذا ما عبر عنه بعض السلف بقولهم: "خالط الناس ببدنك وفارقهم بقلبك".
نموذج النبي صلى الله عليه وسلم
لقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم هذا التوازن الدقيق في سيرته العطرة، فكان يخلو بنفسه في غار حراء للتأمل والعبادة، ثم يعود لينخرط في المجتمع ويبلغ رسالته ويتعامل مع الناس في أسواقهم ومنتدياتهم.
ولم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على مخاطبة فئة واحدة من المجتمع، بل كان يتنقل بين مختلف الفئات والتجمعات، كما أشار ابن عاشور: "يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم".
الصورة النمطية وكبح الأثر
ومما يلفت الانتباه أن الصورة النمطية التي رسمها المشركون للرسول المثالي (أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يخالط الناس) كانت محاولة لإضعاف تأثيره وكبح أثره في المجتمع.
فعندما يُصر المجتمع على رسم صورة مثالية غير واقعية للناهض أو المصلح بأنه شخص منقطع عن الدنيا، لا يخالط الناس ولا يشاركهم همومهم اليومية، فإن هذا يضعه أمام خيارين صعبين: إما أن ينسحب إلى "صومعته" ليوافق هذه الصورة، فيفقد تأثيره المباشر، أو يخالط الناس، فيُتهم بمخالفة ما يُفترض أن يكون عليه من "المثالية" المزعومة.

وربما هذا هو السر وراء ضيق المشركين ذرعاً بمخالطة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس وبشريته، لأن ذلك كان يزيد من تأثيره ويجعل دعوته أقرب للناس وأكثر قبولاً.
الخلاصة والعبرة
في ختام هذه القراءة في منهج التأثير الإصلاحي، نستخلص أن الناهض المؤثر هو من يجمع بين الخلوة والمخالطة:
- خلوة للتزود الروحي والفكري، وتعميق الوعي والبصيرة.
- ومخالطة للناس، بمختلف فئاتهم وتوجهاتهم، للتأثير الإيجابي وإحداث التغيير المنشود.
فالصومعة وحدها قد تُنتج حكمة نظرية لا تجد طريقها للتطبيق، والسوق وحده قد يُحدث نشاطاً بلا عمق أو تأثير مستدام. والنموذج الأمثل  أن يكون الناهض على بصيرة من أمره، يدرك متى يخلو بنفسه ومتى ينخرط في المجتمع، وكيف يوازن بين الأمرين لتحقيق أقصى درجات التأثير والإصلاح.
لقد اختار الله تعالى لرسله وأنبيائه منهج المخالطة والمشي في الأسواق، وعلينا كناهضين ومصلحين أن نقتفي أثرهم، ونسلك سبيلهم، جامعين بين عمق الخلوة وواقعية المخالطة، محققين بذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108].

كتب حسان الحميني
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.