مدخل: آية كونية تستوقف المتأمل
في شهر رمضان المبارك، حيث تصفو النفوس وتتفتح القلوب لمعاني القرآن وأسراره، تستوقفنا آيات الله في الكون والنفس والكتاب. نحن كالقطع المتجاورات من الأرض، نرتوي جميعاً من معين رمضان الصافي، لكن تختلف آثاره علينا باختلاف استعداداتنا وقابلياتنا. فمنا من يزداد إيماناً وتقوى، ومنا من تنمو عنده ملكات الصبر والتحمل، ومنا من تنكشف له أسرار ومعانٍ في كتاب الله. وهكذا نُشكِّل معاً بستاناً إيمانياً متكاملاً، يتجلى فيه معنى الآية التي سنتأملها اليوم.
تمثل الآية الرابعة من سورة الرعد لوحة كونية بديعة، تدعو المتأمل للتفكر في أسرار الخلق وحكمة التنوع. يقول الله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
تتحدث هذه الآية عن قطع من الأرض متجاورة، لكنها رغم تجاورها وتشابه ظروفها تنتج ثمارًا مختلفة وتخرج نباتات متنوعة. هذه القطع المتلاصقة تُسقى بماء واحد من السماء، ومع ذلك يختلف إنتاجها وتتفاوت ثمارها في الطعم والشكل والحجم واللون.
التنوع سنة كونية: درس من الطبيعة
تكشف لنا هذه الآية أن التنوع والاختلاف سنة كونية أرادها الله في خلقه. فكما أن قطع الأرض المتجاورة تختلف في إنتاجها رغم تشابه ظروفها الخارجية، كذلك خلق الله البشر متنوعين في قدراتهم ومواهبهم وتوجهاتهم رغم اشتراكهم في الإنسانية.
يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية: "إن في مخالفة الله عزّ وجلّ بين هذه القطع من الأرض المتجاورات وثمار جناتها وزروعها... لدليلاً واضحا وعبرة لقوم يعقلون اختلاف ذلك، أن الذي خالف بينه على هذا النحو الذي خالف بينه، هو المخالف بين خلقه فيما قسم لهم من هداية وضلال وتوفيق وخذلان".
فالطبري يربط بشكل بديع بين الاختلاف في عالم النبات والاختلاف بين البشر، مؤكدًا أن كليهما من تدبير الله الحكيم. وهذا يدعونا للتسليم بمشيئة الله في خلقه، والإيمان بأن وراء هذا التنوع حكمة بالغة قد ندرك بعضها وقد تخفى علينا جوانب منها.
التنوع طريق للتكامل: رؤية الشعراوي
يضيف الشيخ الشعراوي رحمه الله بُعدًا آخر لفهم هذه الآية، حيث يقول: "أعلم أنه لا يوجد شيء أو أمر مفضل على إطلاقه، وأمر آخر مفضول على إطلاقه، فما دمنا نفضل بعضه على البعض الآخر؛ فهذا يعني أن كلاً منهما مفضل في ناحية، ومفضول عليه في ناحية أخرى".
تلك الرؤية العميقة تجعلنا ندرك أن التفاضل بين المخلوقات ليس تفاضلاً مطلقًا، بل هو تفاضل نسبي. فكل مخلوق متفوق في جانب، ومتأخر في جانب آخر. وهذا ما يخلق التكامل بين المخلوقات، فيكمل بعضها ما ينقص الآخر.
فالله سبحانه وتعالى هو الوتر، وكل ما سواه شفع. كل مخلوق محتاج إلى غيره، متمم بغيره، مكتمل مع غيره. وهذا يجعل التنوع والاختلاف مصدرًا للثراء والتكامل، وليس سببًا للصراع والتنافر.
عالم القلوب: تشبيه النسفي
يأخذنا الإمام النسفي في تفسيره لهذه الآية إلى عالم آخر، عالم القلوب البشرية، حيث ينقل عن الحسن البصري قوله: "مثل اختلاف القلوب في آثارها وأنوارها وأسرارها باختلاف القطع في أنهارها وأزهارها وثمارها".
هذا التشبيه البليغ يفتح أفقًا واسعًا للتأمل، فكما تختلف قطع الأرض في إنتاجها وثمارها، تختلف القلوب البشرية في استجابتها للحق والهداية. بعضها كالأرض الطيبة تنبت النبات الحسن بإذن ربها، وبعضها كالأرض المالحة لا تكاد تنبت شيئًا.
وهذا التنوع في القلوب والنفوس يجعل من البشرية فسيفساء متناغمة، حيث يكمل كل إنسان بموهبته واتجاهه ما ينقص الآخر. فمنا العالم والجاهل، والقوي والضعيف، والغني والفقير، وكل له دوره ومكانته في هذه الحياة.
اللوحة الفنية: نظرة سيد قطب
يلفت سيد قطب الانتباه في تفسيره "في ظلال القرآن" إلى الجانب الفني والجمالي في هذه الآية، حيث يقول: "ومرة ثالثة نقف أمام التقابلات الفنية في اللوحة بين القطع المتجاورات المختلفات. والنخل صنوان وغير صنوان والطعوم مختلفات. والزرع والنخيل والأعناب...".
يرى سيد قطب في هذه الآية "جولة هائلة في آفاق الكون الفسيحة"، تدعونا للتأمل في بديع صنع الله وروعة تدبيره. ويستغرب ممن لا توقظ قلوبهم هذه الآيات، ولا تنبه عقولهم، ولا تدفعهم للتفكر في الخالق المبدع، "كأن عقولهم مغلولة، وكأن قلوبهم مقيدة".
دعوة للتأمل والعمل
إن التأمل في هذه الآية الكريمة يقودنا إلى حقائق عميقة عن الكون والحياة والإنسان. فالتنوع ليس عبثًا أو صدفة، بل هو نظام إلهي حكيم، أراده الله ليتحقق التكامل بين المخلوقات.
كما أن هذه الآية تدعونا لقبول التنوع البشري والإفادة منه، بدلاً من محاولة صهر البشر في قالب واحد. فاختلاف الناس في قدراتهم ومواهبهم واتجاهاتهم نعمة، تجعل من المجتمع البشري كيانًا متكاملاً، وليس نسخًا متكررة.
ولعل أهم درس تعلمنا إياه هذه الآية هو أن الاختلاف لا يعني التخالف، وأن التنوع لا يستلزم التنافر. بل الاختلاف طريق للتكامل، والتنوع سبيل للتعاون والتعاضد، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.
ففي التنوع حكمة، وفي الاختلاف رحمة، ولا كمال إلا لله وحده، أما نحن البشر فكمالنا في تكاملنا، وغنانا في تنوعنا، وقوتنا في اختلافنا.
لنتأمل إذًا في هذه الآية، ولنجعل من التنوع طريقًا للتكامل لا للتناحر، وسبيلاً للتعاون لا للتناكر، فنكون بذلك ممن قال الله فيهم: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
كتب حسان الحَمِيَني
والله الموفق.