استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المجتمع الناهض : قراءة في الآية 92 من سورة التوبة


﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ - [سورة التوبة: 92]

 تمهيد

في خضم الآيات التي نزلت في سياق التخلف عن الجهاد والخروج مع النبي ﷺ إلى تبوك، تأتي هذه الآية الكريمة لتضع لنا قاعدة اجتماعية وأخلاقية وتربوية نبيلة. قاعدة تجعل من المجتمع المسلم مجتمعاً ناهضاً حقاً، يستفيد من كل طاقاته وإمكاناته، ولا يهمش أحداً من أبنائه مهما كانت ظروفه أو قدراته.

 المعذورون ودورهم في المجتمع الناهض

تحدد الآية ثلاث فئات من المعذورين: ذالضعفاء، والمرضى، والذين لا يجدون ما ينفقون. هؤلاء معفيّون من المشاركة في الجهاد بأجسادهم أو أموالهم، لكن - وهنا مربط الفرس - معفيّون بشرط: ﴿إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.

فالمجتمع الناهض يستنفر مقدراته كلها، حتى ذاك العاجز والفقير، فمكانه محفوظ ودوره مقدر، وهو من المحسنين إذا أحسن. هذا المبدأ يؤسس لرؤية مجتمعية متكاملة حيث:
  • - لكل فرد قيمة ودور مهما كان وضعه
  • - لا يُهمش أحد بسبب عجز أو فقر
  • - المعيار هو الإحسان وليس حجم العمل أو نوعه
  • - المشاركة واجب على الجميع كلٌ بحسب استطاعته
  • - النصح والإخلاص لله ورسوله أساس قبول العمل
يقول سيد قطب رحمه الله: "ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم، أو لشيخوخة تقعدهم؛ ولا على المرضى الذين لا يستطيعون الحركة والجهد؛ ولا على المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون به.. ليس على هؤلاء حرج إذا تخلفوا عن المعركة في الميدان، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله، لا يغشون ولا يخدعون، ويقومون بعد ذلك بما يستطيعونه - دون القتال - من حراسة أو صيانة أو قيام على النساء والذرية في دار الإسلام، أو أعمال أخرى تعود بالنفع على المسلمين."

 الناهض دائم الحضور والشهود

يمكننا أن نفهم من الآية مبدأ هاماً: "الناهض دائم الحضور والشهود لا عذر له". فكما أن صلاة المريض تتغير صورتها حسب استطاعته - فيصليها واقفاً فإن لم يستطع فجالساً فإن لم يستطع فمستلقياً - كذلك المشاركة في أعباء المجتمع تتغير صورتها بحسب القدرة، لكنها لا تسقط بالكلية.

وقد كان الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس مثالاً حياً لهذا المبدأ. كان مقعداً مشلولاً، لكنه نصح قومه فكان ما كان من هبتهم. لم يمنعه عجزه الجسدي من أن يكون قائداً ومؤسساً وملهماً.

مفهوم النصح في الآية

يعرف الآلوسي رحمه الله النصيحة بقوله: "{ إِذَا نَصَحُواْ لله وَرَسُوله } بالإيمان والطاعة ظاهراً وباطناً كما يفعل الموالي الناصح فالنصح مستعار لذلك، وقد يراد بنصحهم المذكور بذل جهدهم لنفع الإسلام والمسلمين بأن يتعهدوا أمورهم وأهلهم وإيصال خبرهم إليهم ولا يكونوا كالمنافقين الذين يشيعون الأراجيف إذا تخلفوا."

فالنصح - كما يتضح - أعمق بكثير من مجرد تقديم المشورة اللفظية، بل هو:
  • - الإيمان والطاعة ظاهراً وباطناً
  • - بذل الجهد لنفع الإسلام والمسلمين
  • - تعهد أمور المسلمين وأهلهم
  • - نقل الأخبار الصحيحة ومحاربة الإشاعات
  • - الدعاء والتأييد القلبي
ويؤكد البقاعي هذا المعنى بقوله: "{ إذا نصحوا }... أي في تخلفهم وجميع أحوالهم { لله } أي الذي له الجلال والإكرام { ورسوله } أي سراً وعلانية، فإنهم حينئذ محسنون في نصحهم الذي منه تحسرهم على القعود على هذا الوجه وعزمهم على الخروج متى قدروا."

 الفقر ليس عائقاً في المجتمع الناهض

من اللطائف التي نستفيدها من تفسير القشيري رحمه الله، أن الفقر ليس عيباً في المجتمع الناهض، وليس حاجزاً أمام المساهمة. بل قد يكون في بعض الأحيان نعمة وفضيلة. يقول القشيري: "قيمةُ الفقرِ تظهر عند سقوط الأمر، ولو لم يكن في القلة خيرٌ إلا هذا لكفي لها بهذا فضيلة؛ بقوا في أوطانهم ولم يتوجَّه عليهم بالجهادِ أمرٌ، ولا بمفارقة المنزل امتحان. واكتفى منهم بنصيحة القلب، واعتقادِ أَنْ لو قدروا لخرجوا."

فالفقراء المعذورون معفيون من بعض الأعباء، لكنهم في المقابل مطالبون بالنصح، وبأن تكون قلوبهم مع إخوانهم. وفي هذا درس بليغ في مفهوم التكافل الاجتماعي، الذي يجعل لكل فرد دوراً ومكانة.

بينما يوضح القشيري أن الأغنياء في محنة متعددة الجوانب: "وأصحابُ الأموال امتُحِنوا - اليومَ - بِجَمْعِهَا ثم بِحِفْظِهَا، ثم مَلَكَتْهُم محنتُها حتى شقَّتْ عليهم الغيبةُ عنها، ثم توجَّه اللومُ عليهم في تَرْكِ إِنفاقها، ثم ما يعقبه - غداً من الحسابِ والعذاب يربو على الجميع."

 مفهوم المحسن في الآية

يضع القشيري تعريفات عميقة للمحسن: "المُحْسِنُ الذي لا تكون للشرع منه مطالبة لا في حقِّ الله ولا في حقِّ الخَلْق. ويقال هو الذي يعلم أَنَّ الحادثاتِ كلَّها من الله تعالى. ويقال هو الذي يقوم بحقوقِ ما نِيط به أَمْرُه؛ فلو كان طيرٌ في حكمه وقَصَّرَ في عَلَفِه - لم يكن محسناً."

وتختم الآية بالإشارة إلى أن الإنسان مهما بلغ من الاجتهاد فهو في حاجة إلى عفو الله ومغفرته، كما يشير البقاعي: "والله... غفور رحيم إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير والعجز وإن اجتهد، فلا يسعه إلا العفو."

نخلص : 

إن قراءة هذه الآية الكريمة في ضوء شواهد المفسرين تقدم لنا رؤية متكاملة للمجتمع الناهض، الذي يستثمر كل طاقات أبنائه ويستفيد من مقدرات جميع فئاته. فالعجز الجسدي أو الاقتصادي ليس نهاية الطريق، بل هو تحوّل في نوع المشاركة وطبيعتها.

في هذا درس عظيم لنا في شهر رمضان المبارك، حيث يتعلم المسلم أن عجزه عن بعض الأعمال (كالصيام مثلاً للمريض) لا يعفيه من بقية المسؤوليات، وأن الناهض الحقيقي يبقى فاعلاً ومؤثراً بقلبه وفكره ونصحه حتى لو قعد به جسده.

فالمجتمع الناهض مجتمع يرفض التهميش والإقصاء، ويرى في كل فرد من أبنائه قيمة وإمكانية، ويردد دائماً: "كلٌّ ميسر لما خلق له".



كتب حسان الحميني
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.