يمتد الصراط المستقيم عبر التاريخ البشري كموكب روحي متواصل، يحمل رسالة الهداية من آدم عليه السلام وحتى يومنا هذا. إنه مسار متجدد للكشف عن القيم وغرسها، يربط الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين في سلسلة واحدة. يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُّطِعِ اِ۬للَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ اَ۬لذِينَ أَنْعَمَ اَ۬للَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ اَ۬لنَّبِيٓـِٕۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّٰلِحِينَۖ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقاٗۖ } [النساء: 69].
يقول الطبري: "صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين".
الناهض: حلقة في سلسلة الهداية
الناهض ليس بداية مطلقة ولا نهاية مطلقة، بل هو حلقة في سلسلة متصلة. مهمته حمل راية الهداية، ورفض القعود والركود، والاستمرار في رحلة البحث عن الاستقامة.
أسماء الله الحسنى: ينابيع القيم
تتجلى القيم في أسماء الله الحسنى كينابيع روحية عميقة. فاسم الرحمن يغرس قيمة الرحمة والتراحم، واسم العدل يؤسس لقيمة الإنصاف والمساواة، واسم العليم يرسخ قيمة العلم والمعرفة. كل اسم يحمل منظومة قيمية متكاملة.
وإلى جانب هذه الأسماء، يبرز اسم الله "القيوم" كمفتاح عميق في منظومة القيم والاستقامة. فالقيوم من مادة "قام" التي تحمل معاني الثبات والدوام والقيادة. وهو اسم يشير إلى قيومية الله في إقامة الكون وتدبيره، وفي هداية البشر إلى الصراط المستقيم.
يقول ابن القيم: "واسمه القيوم يتضمن جميع الصفات الفعلية من الخلق والتدبير والإحياء والإماتة، والإعزاز والإذلال، والعطاء والمنع والخفض والرفع". فهو يحمل في طياته قيم شاملة تمتد من الخلق إلى التدبير، من العطاء إلى المنع، من الإعزاز إلى الإذلال.
وفي هذا إشارة عميقة إلى أن الاستقامة ليست مجرد سلوك فردي، بل هي منهج كوني يتجلى في تدبير الله للوجود. فكما يقوم الله بتدبير الكون بنظام دقيق، فإن على الإنسان أن يسعى للاستقامة في سلوكه وقيمه.
رؤية الهداية: التحرر من القيود المعرفية
يصف أبو حامد الغزالي هذه الرحلة بدقة: "الامتداد على الصراط المستقيم في طلب الوسط بين هذه الأطراف شديد، وهو أدق من الشعر وأحد من السيف". إنها رحلة التحرر من القيود المعرفية، حيث يتحول الإنسان من المكب على وجهه - الذي يرى فقط عند قدميه - إلى السوي الذي يرى امتداد الأفق في جميع الاتجاهات.
معيار الاستقامة يتجلى في قوله تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]
خاتمة: رحلة القيم والقيومية
الاستقامة ليست مجرد مسار فردي، بل هي منظومة كونية تتجلى في القيومية الإلهية التي تحكم الوجود. فكما يقوم الله سبحانه بالقيومية على الكون، يُدعى الإنسان للقيام بالقوامة في عمرانه وحياته.
القيومية الإلهية تظهر في تدبير شؤون الكائنات بنظام دقيق، حيث تتناغم كل ذرة في منظومة متكاملة. والقوامة الإنسانية امتداد لهذه القيومية، حيث يُكلف الإنسان بإعمار الأرض وفق منهج الاستقامة.
الناهض إذن هو حلقة في سلسلة القيومية الكبرى، مهمته أن يحمل راية القيم ويجسدها في واقعه، متجاوزًا حدود الذات إلى شمولية التأثير، سائرًا سويًا غير مكب على صراط مستقيم.
كتب حسان الحميني والله الموفق