مدخل
تمثل النفس المطمئنة حالةً روحيةً ساميةً تجلت في القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: 27]. هذه الآية الكريمة تفتح آفاقاً واسعةً للتأمل في معنى الطمأنينة وأبعادها المختلفة، وكيف يمكن أن تتحول من حالة فردية إلى قوة مجتمعية دافعة نحو العمران والحضارة.
الطمأنينة في نظر المفسرين
رؤية الطبري: الطمأنينة والوعد الإلهي
يقول الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره مخبراً عن قيل الملائكة لأوليائه يوم القيامة: يا أيتها النفس المطمئنة، يعني بالمطمئنة: التي اطمأنت إلى وعد الله الذي وعد أهل الإيمان به، في الدنيا من الكرامة في الآخرة، فصدّقت بذلك."
يؤسس تفسير الطبري لفهمٍ جوهريٍّ للطمأنينة، حيث يربطها بالتصديق العميق بالوعد الإلهي. هذا الربط يكشف عن جانبين مهمين: الأول هو أن الطمأنينة نتيجة ليقينٍ راسخ، والثاني أنها تجمع بين حالتين: التصديق في الدنيا والكرامة في الآخرة.
نظرة الماتريدي: شمولية الطمأنينة
يقول الماتريدي: "فالمطمئنة، هي الساكنة التي لا ترتاب، ولا تضطرب طمأنينتها بوعد الله ووعيده وأمره ونهيه وتوحيده. ثم يجوز أن يكون هذا في أمر الدنيا."
يوسع الماتريدي دائرة الطمأنينة لتشمل جوانب متعددة من العقيدة والشريعة. فهو يرى أن الطمأنينة حالة شاملة تمتد إلى كل جوانب الدين: العقيدة، (التوحيد)، والأحكام (الأمر والنهي)، والجزاء (الوعد والوعيد). وأهم ما يضيفه هو إمكانية تحقق هذه الطمأنينة في الحياة الدنيا.
عمق ابن عطية: الطمأنينة والتحصيل
يقول ابن عطية: "والمطمئنة معناه: الموقنة غاية اليقين، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال: ولكن ليطمئن قلبي، فهي درجة زائدة على الإيمان، وهي ألّا يبقى على النفس في يقينها مطلب يحركها إلى تحصيله."
يقدم ابن عطية رؤيةً فريدةً تربط الطمأنينة بالتحصيل المعرفي والروحي، فهو يراها درجةً متقدمةً تتجاوز الإيمان الأساسي، حالة من اكتمال اليقين حيث لا تبقى النفس في حاجة إلى مزيد من التحصيل. استشهاده بقصة إبراهيم عليه السلام يربط الطمأنينة بالمعرفة اليقينية التي تتجاوز العلم النظري.
رؤية البقاعي: تكامل الدنيا والآخرة
يقول البقاعي: "يا أيتها النفس المطمئنة أي التي هي في غاية السكون لا خوف عليها ولا حزن ولا نقص ولا غبون، لأنها كانت في الدنيا في غاية الثبات على كل ما أخبر به عن الدار الآخرة وغيرها من وعد ووعيد وتحذير وتهديد، فهم راجون لوعده خائفون من وعيده، وإذا كانت هذه حال النفس التي شأنها الميل إلى الدنيا فما ظنك بالروح التي هي خير صرف."
يبرز البقاعي العلاقة التكاملية بين طمأنينة الدنيا والآخرة. فالطمأنينة عنده نتيجة للثبات في الدنيا على الإيمان بحقائق الآخرة. كما يشير إلى التوازن النفسي بين الرجاء والخوف، وكيف أن هذا التوازن يرفع النفس فوق ميولها الدنيوية؛
عمق التفسير الأمثل: الجمال الروحي
يقول صاحب التفسير الأمثل: "(يا أيّتها النفس المطمئنة)... (ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّةً)... (فادخلي في عبادي)... (وادخلي جنّتي). فهل ثمّة أجمل وألطف من هذا التعبير!... تعبير يحكي دعوة اللّه سبحانه وتعالى لتلك النفوس المؤمنة، المخلصة، المحبّة والواثقة بوعده جلّ شأنه... دعوتها لتعود إلى ربّها ومالكها ومصلحها الحقيقي... وما قوله تعالى: «جنتي» إلّا للإشارة إلى أنّ المضيف هو اللّه جلّ جلاله... فما أروعها من دعوة! وما أعظمه وأكرمه من داعٍ! وما أسعده من مدعوّ!"
يضيف التفسير الأمثل بعداً جمالياً وروحياً عميقاً، مركزاً على لطف النداء الإلهي وجماله. كما يربط الطمأنينة بالمحبة والإخلاص، مشيراً إلى أن الطمأنينة تمتد لتشمل كل الأحوال في الدنيا والآخرة.
مدخلات الناهض في تحقيق الطمأنينة العمرانية
يحتاج الناهض إلى مدخلات أساسية تمكّنه من تحويل الطمأنينة من حالة فردية إلى قوة عمرانية فاعلة، وتتجلّى هذه المدخلات في ثلاثة عناصر متكاملة، يشكل العلم النافع أولها وأساسها. فهو يجمع بين العلم الشرعي والكوني، في منظومة متكاملة تمكن من فهم سنن الله في الخلق والأمر. ويتعمق هذا الفهم من خلال التفقه في مقاصد الشريعة التي تكشف عن غايات التكليف، مع إدراك عميق للسنن الكونية التي تحكم العمران البشري. وبهذا الجمع المتوازن بين العلمين يستطيع الناهض أن يقرأ حركة الواقع ويتعامل معها بحكمة وبصيرة.
وتأتي التزكية المستمرة كعنصر ثانٍ لا غنى عنه في بناء شخصية الناهض، فهي عملية دائمة لتهذيب النفس وترقيتها. وتكتسب هذه التزكية أهميةً خاصةً في تحقيق توازن داخلي يمكّن الناهض من تجاوز الفجوة بين المعرفة والسلوك، محولاً العلم النظري إلى ممارسة عملية. كما تمنحه القدرة على ضبط النفس في مواجهة الشدائد والمحن، مع الحفاظ على استمرارية العطاء دون انقطاع. والأهم من ذلك أنها تساعده في تجاوز عوائق النفس من عُجب وكِبر وحسد، تلك العوائق التي قد تحول دون تحقيق الغايات النبيلة التي يسعى إليها.
أما العنصر الثالث فيتمثل في الوعي العميق بالواقع، وهو وعيٌ يتجاوز المعرفة السطحية إلى فهم عميق لحركة المجتمع وتحولاته. فالناهض يحتاج إلى قدرة متميزة على قراءة المتغيرات المحلية والعالمية، مع فهم دقيق للتحديات والفرص الكامنة في البيئة المحيطة. كما يتطلب هذا الوعي إدراكاً واقعياً للإمكانات المتاحة والقيود القائمة، مع قدرة على استشراف المآلات وتقدير العواقب المحتملة لكل خطوة من خطوات العمل.
وتتكامل هذه المدخلات الثلاثة في بناء شخصية الناهض، فتشكل أساساً متيناً يمكّنه من تحويل الطمأنينة الفردية إلى قوة مجتمعية دافعة نحو العمران. فالعلم يرسم المسار ويوضح الغايات، والتزكية تهذب النفس وترقيها، والوعي بالواقع يضبط الحركة ويوجه الخطوات نحو تحقيق المقاصد المنشودة.
دور الناهض في تحويل الطمأنينة إلى عمران
يتميز دور الناهض في تحويل الطمأنينة إلى قوة عمرانية من خلال قدرته على التأثير في ثلاثة مستويات متكاملة. فعلى المستوى النفسي، يتجاوز كونه متلقياً للطمأنينة إلى كونه باثًّا لها في محيطه، محولاً إياها من حالة فردية إلى حالة جماعية تعزز الأمن النفسي المجتمعي. وعلى المستوى العمراني، يربط الطمأنينة بالإنجاز والتنمية، محولاً البيئة المطمئنة إلى فضاء للإنتاج والعطاء. أما على المستوى البصيري، فيتميز بقدرته على رؤية المنح في المحن، متجاوزاً ظواهر الأمور إلى بواطنها، مبادراً لحل المشكلات وتجاوز العقبات.
أثر الطمأنينة في بناء السلام العالمي
تمتد آثار الطمأنينة من المستوى الفردي إلى المجتمع الإنساني بأسره، حيث تشكل أساساً متيناً للسلام العالمي وحوار الحضارات. فالنفس المطمئنة تتجاوز حدود الذات والمجتمع المحلي لتؤسس لرؤية إنسانية شاملة تقوم على التعايش والتفاهم. ويتجلى هذا الأثر في مستويات متعددة، فعلى المستوى القيمي تؤسس الطمأنينة لمنظومة أخلاقية تتجاوز الحدود الثقافية والدينية، حيث يستطيع الإنسان المطمئن أن يتواصل مع الآخر المختلف دون خوف أو توجس، مدركاً أن التنوع سنة كونية وثراء إنساني.
وعلى المستوى المعرفي، تساهم الطمأنينة في بناء حوار حضاري يقوم على التبادل المعرفي والثقافي، فالنفس المطمئنة لا تخشى على هويتها من الانفتاح على الآخر، بل ترى في هذا الانفتاح فرصة للإثراء المتبادل والنمو المشترك. أما على المستوى الاجتماعي، فتؤدي الطمأنينة إلى تأسيس علاقات إنسانية تتجاوز حدود العرق والدين والثقافة، مؤسسة لمجتمع عالمي يقوم على التعاون والتكافل.
وتبرز أهمية هذا البعد العالمي للطمأنينة في عصرنا الحاضر، حيث تتصاعد النزاعات وتتعمق الانقسامات بين الشعوب والثقافات. فالطمأنينة بمفهومها الشامل تقدم حلاً جذرياً لهذه التحديات، لأنها تعالج جذور الصراع المتمثلة في الخوف من الآخر والقلق على الهوية. فالإنسان المطمئن يستطيع أن يساهم في بناء سلام عالمي حقيقي، لأنه يمتلك القدرة على تجاوز أسباب النزاع والصراع، ويرى في التنوع البشري مصدر قوة لا سبب ضعف.
خاتمة
تكشف قراءة أقوال المفسرين في النفس المطمئنة عن عمق وشمول هذا المفهوم القرآني. وفي عصرنا، نحن بحاجة إلى فهم الطمأنينة كقوة دافعة للعمران والبناء الحضاري، وهو ما يتجلى في دور الناهض الذي يحول الطمأنينة الفردية إلى طاقةٍ مجتمعيةٍ إيجابيةٍ تدفع نحو الإنجاز والتنمية.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.