تحكي الآثار في علم النفس السياسي أن الجنود إذا لم ينقطعوا عن حضارة المدنية وبقي فيهم بقية باقية من صورة الحياة المدنية في سلوكهم وكلامهم وذكرياتهم فهذا يعني أن هؤلاء الجنود لم يعايشوا ظروفا فوق إنسانية وأن عهودهم بالقتال متقطعة ..
وهذا يدل على أن الدولة تحقق نهضة وتبني حضارة ولا تستعبد شعبها بل تخدمه ولا تطوع الجندي وسلاحه إلا لعزة الوطن وأمن مواطنيه..
أما حين ينقطع الجند عن صورة الحياة المدنية في حديثهم وسلوكهم وتنضب العاطفة يتحولون لوحوش بشرية أو قطيع من الهمج المذعورين الذين يطلقون على كل متحرك ويهاجمون كل صوت..
يحدث هذا بفعل الحروب الوحشية الطويلة والمعارك الظالمة غير المبررة والقضاء على صوت كل ضمير يهمس أو عقل يسأل "لماذا"..
تجد الضحايا النفسية من العسكر أكثر من القتلى في أرض المعركة وهم فيروسات بشرية يفتكون بأسرهم حين يعودون ..
لهذا كان ضروريا في أعقاب الحرب العالمية شيوع ظاهرة العلاج النفسي الجمعي لأن المعالجين أقل من استيعاب عدد العساكر والأسر المتضررة من ويلات الحروب..
وعليه فحين تخلو اللغة العسكرية من لمسات المدنية فهذه أول بشارة على أن الفساد والهزيمة قد نخر عظام الدولة حتى النخاع وأنه يفتك بجندها وشعبها ومقدراتها على السواء والكل يبقى ضحايا حين ينتحر المسؤول أو يفر..
فنجد ألفاظ التاريخ لحضارة الحقب التي سطرت أمجادا يتمازج فيها التعبير الاصطلاحي بين العرف العسكري والمدني ..
فهما المكونان لنسيج المجتمع وهما بمثابة جناحي الطائر..
وبهذا يبقى راسخا في وعي المجتمع أن مسؤولية الجناحين موزعة على كل أفراده وامتيازاتها أيضا ممنوحة لكل فرد فيه.
فينشغل كل فرد بما يليه ليكون أهلا لهذه المنظومة.
ولا ينقطع هذا التآزر إلا في ثقافات الحقب المنتكسة المتسمة بالشركاء المتشاكسين التي يدفع ثمن نكستها المدني والعسكري على السواء..
وفي قراءة لحكاية أحداث معركة حطين جاء فيها..
"ونصبوا للملك خيمة حمراء وضعوا على الشِّركِ عمادها، وتولت الرجال حِفظ أطنابها، فكانوا أوتادها، فنزل أصحابنا عن ظهور الخيول، وصعدوا إليهم واثقين بإدراك المأمول"
استعراض إمكانات العدو والتركيز على التروس البشرية حول القيادة التي تنبي أن الولاء بالإكراه والتجنيد بالإجبار وهذا آخر مسمار يهوي بعرش الملك على غير رجعة..
والوصف مسبوق في الحديث عن معركة ذات السلاسل مع الفرس في العهد الراشدي التي انتهت بقتل نصف الجيش وغرق نصفه الآخر..
وفي المقابل جيش بني على أساس حضاري بين الدين والعدالة تتقدمه في القلب قيادته وعلى رأسها سلطانه ..
فمهما تغير الواقع في الميدان عن الخطة فالثبات يكسر هيبة القتال..
يهب الجندي بجسده يطلب الخلود غير عابئ بالمهالك ولاء ويقينا وعزما لا يفله إلا الموت..
بينه وبين النصر صبر ساعة..
وشتان بين من يطلب الموت ثمنا للحياة ومن يطلب الحياة بموت البقية..
فاطمة بنت الرفاعي