مع كل فجر جديد، يقف الإنسان على عتبة يوم جديد، يحمل في طياته فرصاً لا تُحصى وإمكانات لا تنتهي. لكن كم منا يستقبل يومه بوعي المكلَّف المسؤول، وكم منا يستقبله بغفلة المهمَل المتروك؟ إنها لحظة تستدعي وقفة تأمل مع قوله تعالى:(أَيَحْسِبُ اُ۬لِانسَٰنُ أَنْ يُّتْرَكَ سُديًۖ) [القيامة،36]؟
تحرير الفهم قبل تحرير العمل
درج كثير من الناس على فهم هذه الآية في إطار ضيق، كأنها مجرد رد على منكري البعث والحساب. لكن هذا الفهم يحجب عنا أفقاً رحباً من المعاني التي تخاطب المؤمن قبل الكافر، والناهض قبل القاعد.
إن تحرير هذه الآية من إطار الجدل العقدي إلى رحابة التوجيه اليومي يفتح لنا آفاقاً جديدة في فهم معنى الحياة وقيمة الوقت. فهي ليست مجرد حجة على المنكرين، بل هي منهج حياة للمؤمنين. وكما أن الكافر يُنكر البعث والحساب، فقد يعيش المؤمن في غفلة عن معنى التكليف والمسؤولية، فيعيش يومه في نوع من العبث العملي وإن كان مؤمناً بالبعث نظرياً.
لست مهملاً... فلا تهمل
يلخص الإمام القشيري المعنى بإيجاز بليغ حين يقول: "مُهمَلاً لا يُكلَّف!؟ ليس كذلك." إنه تذكير صارخ بأن كل لحظة في حياتنا لها معنى وغاية. فكيف يستقيم أن يخلق الله الإنسان في أحسن تقويم ثم يتركه بلا توجيه أو تكليف؟
يؤكد حسين فضل الله هذا المعنى بقوله: "وهل يعني هذا إلا العبث الذي يعبر عن اللاّمعنى، ليكون الإنسان كمية مهملة، فلا هدف له في حياته، ولا خط له في حركته، ولا مسؤولية له في كل أوضاعه."
من النشأة إلى الغاية
يرسم الإمام البقاعي صورة شاملة لرحلة الإنسان حين يقول: "فإن ذلك منافٍ للحكمة، فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوئ والجزاء على كل منهما." فحياتنا ليست حركة عشوائية، بل هي مسيرة مقصودة نحو غاية محددة.
ويؤكد ابن عاشور هذا المعنى بقوله: "فإن الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وأبدع تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان لِيستعملها في منافع لا تنحصر... لا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان."
من التأمل إلى العمل
يفتح سيد قطب آفاقاً رحبة للتأمل حين يقول: "وهذه اللمسة: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}.. هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري، كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله."
لكن التأمل وحده لا يكفي. يجب أن يتحول إلى خطة عمل تنظم حياتنا وتوجه حركتنا. فكما يقول الفخر الرازي: "إعطاء القدرة والآلة والعقل بدون التكليف والأمر بالطاعة والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضياً بقبائح الأفعال، وذلك لا يليق بحكمته."
استثمار الوقت: منهج نبوي
يتجلى فهم قيمة الوقت والعمل في الهدي النبوي الشريف بصورة عملية بليغة. فحين يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته قائلاً: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"، فإنه يرسم منهجاً عملياً في استثمار كل لحظة من لحظات العمر، حتى في حالة الهول الشديد والفزع المريع. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بعدم إضاعة اللحظة حتى في تلك الحالة العصيبة، فكيف يسوغ للإنسان أن يعبث بوقته في حالة اليسر والعافية؟ فكما أن النهر الجاري أمامنا فرصة للاغتراف والإخضرار، فكذلك الوقت نهر متدفق يحمل في طياته فرص العمل والإنجاز. والعاقل من يغترف من هذا النهر لتخضر جنبات حياته بالعمل النافع، بدلاً من الاستلقاء على ظهره في غفلة عن قيمة هذه اللحظات الثمينة.
تحرير اليوم من العبث
على الناهض أن يدرك أن كل صباح هو فرصة جديدة لتحرير يومه من العبث. فكما يقول ابن القيم: "فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهي في الدنيا. والثواب والعقاب في الآخرة." هذا الفهم يجعل كل لحظة في اليوم ذات معنى وقيمة.
فاليوم ليس مجرد ساعات تمر، بل هو سلسلة من الفرص للعمل الهادف والإنجاز المؤثر. كل خطوة فيه مسؤولية، وكل عمل فيه أمانة، وكل لحظة فيه فرصة للارتقاء في سلم الإنسانية.
نحو يوم هادف
إن قراءة {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} في بداية كل يوم ليست مجرد تلاوة عابرة، بل هي تأسيس لمنهج حياة يومي يحرر الإنسان من العبثية والعشوائية. إنها دعوة للتخطيط الواعي، والعمل الهادف، والإنجاز المؤثر.
فلنجعل من كل يوم جديد فرصة لتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض، ولنحول كل ساعة إلى خطوة في طريق التكليف والمسؤولية، ولنترجم فهمنا للآية إلى واقع ملموس يشهد بأننا لسنا ممن يُتركون سدى، بل ممن يعيشون الحياة بكل معانيها وأبعادها.
كتب حسان الحميني والله الموفق.