﴿لَآ إِكْرَاهَ فِے اِ۬لدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ اَ۬لرُّشْدُ مِنَ اَ۬لْغَيِّۖ فَمَنْ يَّكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُومِنۢ بِاللَّهِ فَقَدِ اِ۪سْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اِ۬لْوُثْق۪يٰ لَا اَ۪نفِصَامَ لَهَاۖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌۖ ﴾ [البقرة،256]،
تكمن الحكمة العميقة في فهم القيم كمنظومة حية متفاعلة، حيث كل قيمة تُبنى باستقلالية كاملة. هذه الرؤية تتقاطع مع تأملات في فهم آية 'لا إكراه في الدين'، مع الاعتراف باختلاف التفسيرات واجتهادات العلماء في معانيها.
الحرية : فلسفة الاختيار الواعي
يقول الإمام ابن كثير: "لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه". هذا يعني أن الحرية ليست مجرد حق، بل فلسفة كاملة في التعامل مع الذات والعالم. نمنحها مساحة كاملة من الاستكشاف والتعبير، كأننا لا نهتم سوى بها.
المسؤولية : منهج الوعي الداخلي
البقاعي يؤكد أن "الدين وصل إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه". وهذا يتناسق مع رؤيتنا للمسؤولية كمنهج حياة كامل، يدرك فيه الإنسان عمق ارتباطه بمحيطه وبنفسه.
التوازن الداخلي : سيمفونية القيم
الإعجاز الحقيقي يكمن في ترك هذه الدوائر القيمية تتفاعل داخليًا. يقول القاسمي: "سيف الجهاد لم يستعمل للإكراه على الدخول في الدين، بل لحماية الدعوة وسلطان الحكم العادل".
هذا يعني أن التوازن الداخلي لا يُفرض بأدوات خارجية، بل يترك للنفس البشرية آلياتها الطبيعية في التعديل والاعتدال. فعندما تطغى الحرية، تأتي المسؤولية لتصحح المسار، وعندما تتشدد المسؤولية، تمنحها الحرية مساحة للإبداع والتجدد.
المربي الناهض : فن بناء القدرات بدل قمع الحريات
عندما تعوز المربي القدرة على بناء المسؤولية، يلجأ للخيار الأسهل والأكثر تدميرًا: قمع الحرية وتقليم دائرتها. لكن الحكمة تكمن في عكس ذلك تمامًا. فالمربي الناهض يدرك أن دوره ليس في وضع السياجات والحدود، بل في تأهيل القدرات الداخلية للمتربي.
بناء المسؤولية فن دقيق يتطلب الصبر والفهم العميق. إنه يعني تمكين الإنسان من امتلاك أدوات التقييم الذاتي، وتطوير البوصلة الأخلاقية الداخلية بدلًا من فرض بوصلة جاهزة من الخارج.
النمو الروحي : رحلة مستمرة
دور المربي الناهض الحكيم ليس فرض منظومة جاهزة، بل تحفيز النمو الداخلي. كما يؤكد ابن كثير: "من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة".
التربية هنا تتحول من عملية إملائية إلى رحلة اكتشاف، حيث يكتشف الإنسان عمق نفسه وتعقيداتها. النفس البشرية أعمق من أي نظام خارجي، تمتلك آليات داخلية معقدة للتوازن.
القيم كرحلة مستمرة
في النهاية، بناء القيم ليس عملية خارجية، بل رحلة داخلية عميقة. رحلة يكتشف فيها الإنسان نفسه، ويبني توازنه الخاص، تاركًا للحياة مهمة صقل هذه المنظومة القيمية.
القيم ليست سياجًا جامدًا، بل مسار مستمر من النمو والاكتشاف، حيث يعيد كل جيل اكتشاف معانيها بطريقته الخاصة.
كتب حسان الحميني والله الموفق.