تمثل الآية الكريمة {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43] منهجاً متكاملاً في فهم العلاقة بين الوحي والإنسان، وتؤسس لرؤية شاملة في كيفية التعامل مع الهداية الإلهية. وتتجلى في هذه الآية معانٍ عميقة تتجاوز مجرد التوجيه العابر إلى تأسيس منهج حياة متكامل، يربط بين الإنسان وخالقه، وبين العقيدة والكون، وبين النظرية والتطبيق. ولفهم هذه المعاني العميقة، نحتاج إلى تتبع مسارات متعددة في فهم الآية وتدبرها.
المعنى اللغوي والدلالة التشريعية
يكشف التحليل اللغوي للآية عن عمق دلالاتها وثراء معانيها. فالاستمساك، كما يبين الإمام ابن عاشور، يتضمن "شدة المسك، فالسين والتاء فيه للتأكيد. والأمر به مستعمل في طلب الدوام". وهذا التحليل اللغوي يفتح آفاقاً واسعة لفهم طبيعة العلاقة المطلوبة مع الوحي. فهي علاقة تتسم بالقوة والشدة من جهة، و بالاستمرارية والدوام من جهة أخرى.
ولا يقف الأمر عند حدود المعنى اللغوي، بل يتجاوزه إلى البعد التشريعي، حيث يؤكد الإمام الشافعي أن الآية تؤسس لحكم شرعي واضح بقوله: "ففرض عليه الاستمساك بما أوحي إليه، وشهد له أنه على صراط مستقيم". فالاستمساك بالوحي ليس خياراً مطروحاً أو توجيهاً إرشادياً، بل هو فرض وواجب مستفاد من صيغة الأمر الإلهي. وهذا الفهم يؤسس لعلاقة واضحة المعالم بين المؤمن والوحي.
أبعاد الوحي وشموليته
وانطلاقاً من هذا الفهم اللغوي والتشريعي، يقدم الإمام الماتريدي رؤية متكاملة تكشف عن شمولية الوحي وتعدد أبعاده. فالوحي في تصوره يشمل ثلاثة أنواع متكاملة: القرآن الكريم بنصه المعجز، والبيان النبوي بشرحه وتفصيله، والإلهام والإفهام بما يفتح الله به على قلب نبيه من فهم وحكمة. وهذه الرؤية الشاملة تؤسس لفهم عميق لطبيعة الوحي وأبعاده المختلفة.
فالاستمساك المطلوب في الآية لا يقتصر على جانب واحد من جوانب الوحي، بل يشمل هذه الأبعاد كلها في تكاملها وترابطها. فالقرآن الكريم يمثل المصدر الأول والأساس، والبيان النبوي يشرح ويفصل ويطبق، والإلهام والإفهام يفتح آفاقاً جديدة للفهم والتطبيق.
المنهج العملي للاستمساك
ومن هذا الفهم الشامل للوحي، ينتقل بنا الإمام القشيري إلى الجانب العملي، حيث يرسم خارطة طريق عملية للاستمساك بالوحي، تجمع بين الجوانب المادية والروحية، وبين السعي والتوكل. يقول رحمه الله: "اجتهِدْ من غير تقصير وتوكَّلْ على اللَّهِ من غير فُتور، وِقفْ حيثما أُمِرْتَ، وثِقْ بأنك على صِراطٍ مستقيم".
ويقوم هذا المنهج العملي على أربع ركائز أساسية: الاجتهاد المتواصل الذي لا يعرف الكلل أو الملل، والتوكل الدائم على الله الذي يجمع بين الأخذ بالأسباب والثقة بالله، والالتزام بالحدود الشرعية الذي يضبط المسيرة ويحميها من الانحراف، والثقة الكاملة باستقامة المنهج التي تمنح صاحبها الطمأنينة والثبات.
الأبعاد الكونية للاستمساك
وحين نتأمل هذا المنهج العملي، نجد سيد قطب يرتقي بفهم الآية إلى آفاق أرحب، حيث يربط بين العقيدة والكون في نسيج متكامل. يقول: "هذه العقيدة متصلة بحقيقة الكون الكبرى، متناسقة مع الناموس الكلي الذي يقوم عليه هذا الوجود". وهذا الفهم العميق يكشف عن تناغم فريد بين الوحي والكون، وبين العقيدة والوجود، وبين الشريعة والفطرة.
فالاستمساك بالوحي في هذا الفهم ليس مجرد التزام بتعاليم وأحكام، بل هو انسجام مع حركة الكون وقوانينه، وتناغم مع الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان. وهذا يمنح المؤمن بصيرة عميقة في فهم علاقته بالكون من حوله، وبخالق هذا الكون.
سياق الآية وغاياتها
ومن هذا الفهم الكوني الشامل، ينقلنا الإمام البقاعي إلى فهم السياق الخاص للآية وغاياتها المباشرة. يقول: "لما كان المقام لكثرة المخالف محتاجاً إلى تأكيد يطيب خواطر الأتباع ويحملهم على حسن الاتباع". وهذا الفهم يكشف عن أبعاد تربوية ونفسية عميقة في الآية.
فالآية تحقق غايات متعددة: فهي تثبت المؤمنين على طريق الحق في مواجهة كثرة المخالفين، وتقوي يقينهم باستقامة منهجهم رغم ضغوط الواقع، وتؤكد لهم النصر والتمكين من خلال الاستمساك بالوحي. وهذا البعد التربوي والنفسي يجعل الآية معيناً لا ينضب للمؤمنين في كل عصر.
ثمرات الاستمساك
وفي ختام هذه الرحلة مع معاني الآية، يقدم الإمام الطوسي رؤية عميقة لثمرات الاستمساك بالوحي بقوله: "وصف الإسلام بأنه صراط مستقيم لأنه يؤدي إلى الحق المطلوب حيث يستقيم بصاحبه حتى يوصله إليه". وهذا يكشف عن الثمرات العظيمة للاستمساك بالوحي: فهو يحقق الوصول إلى الحق المنشود، ويضمن الاستقامة في السلوك والمنهج، ويهدي إلى الغاية المرجوة في الدنيا والآخرة.
خاتمة
إن التأمل العميق في هذه الآية الكريمة يكشف عن منهج رباني متكامل في التعامل مع الوحي الإلهي. فهو منهج يجمع بين القوة والاستمرار في الأداء، ويربط بين العقيدة والكون في تناغم بديع، ويؤسس لرؤية شاملة في فهم العلاقة بين الإنسان والهداية الإلهية.
وتبرز أهمية هذا المنهج بشكل خاص في عصرنا الحاضر، حيث تتعدد التحديات وتتنوع الصوارف. فالاستمساك بالوحي يمثل صمام الأمان للأمة في مواجهة هذه التحديات، وطريق النجاة من الفتن والمضلات. ومن هنا تأتي أهمية تجديد فهمنا لهذه الآية وتفعيل معانيها في واقعنا المعاصر.
ولعل من أهم الدروس المستفادة من هذه الآية أن الاستمساك بالوحي ليس مجرد شعار نرفعه أو عبارة نرددها، بل هو منهج حياة متكامل يشمل جميع جوانب الحياة: العقدية والتشريعية والسلوكية والاجتماعية. وهو الضمان الوحيد للسير على الصراط المستقيم الموصل إلى رضوان الله تعالى في الدنيا والآخرة.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.