تتجلى في سورة غافر صورة نموذجية للمواجهة بين الحق والباطل، بين الناهض والطاغية، في قصة مؤمن آل فرعون. هذه المواجهة، رغم قدمها، تتكرر في كل عصر بأشكال وأسماء مختلفة، لكن جوهرها يبقى واحداً: صراع بين دعوة الحق إلى سبيل الرشاد، ومحاولة الباطل احتكار الهداية وفرض سبيل الغي باسم الرشاد. وتتجلى هذه المواجهة بوضوح في الخطاب المتبادل بين طرفي الصراع.
المواجهة في المفردات
تبرز المواجهة جلية في تقابل الخطابين وتناقضهما. فبينما يقول فرعون : "وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ"، يرد عليه المؤمن : "يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ". وفي هذا التقابل اللفظي المباشر، يصف سيد قطب موقف المؤمن بقوله: "فهو التحدي الصريح الواضح بكلمة الحق، لا يخشى فيها سلطان فرعون الجبار، ولا ملأه المتآمرين معه من أمثال هامان وقارون".
منهجية الناهض في الدعوة
يكشف الفخر الرازي عن منهجية الناهض المتدرجة في دعوته حين يقول: "اعلم أنه نادى في قومه ثلاث مرات: في المرة الأولى دعاهم إلى قبول ذلك الدين على سبيل الإجمال، وفي المرتين الباقيتين على سبيل التفصيل". ويؤكد الرازي أن هذه الدعوة ليست دعوة للتقليد الأعمى، "لأنه قال بعده {أهدكم سبيل الرشاد} والهدى هو الدلالة". فالناهض يسلك منهجاً تدريجياً يبدأ بالإجمال ثم ينتقل إلى التفصيل، معتمداً على الدليل والبرهان.
حكمة الخطاب وفقه الدعوة
يوضح البقاعي الأساس النفسي في خطاب الناهض بقوله: "يا قوم أي يا من لا قيام لي إلا بهم فأنا غير متهم في نصيحتهم". فهو يؤسس خطابه على الانتماء والنصح، ويضيف معنىً عميقاً في قوله "كلفوا أنفسكم اتباعي" حين يشير إلى أن "السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان".
ويكشف ابن عاشور عن حكمة أخرى في هذا الخطاب بقوله: "وسبيل الرشاد مجمل، وهو على إجماله مما تتوق إليه النفوس، فربْطُ حصوله باتِّباعهم إيَّاه مما يُقبِل بهم على تلقّي ما يفسر هذا السبيل". فهو يبني خطابه على "ما كانوا عليه من معرفة أن وراء هذه الحياة حياة أبدية"، مستثمراً المشترك المعرفي بينه وبين قومه.
سمات الصراع بين الناهض والطاغية
تكشف المواجهة بين مؤمن آل فرعون وطاغية عصره عن سمات جوهرية في الصراع بين الحق والباطل، سمات تتجدد في كل عصر وإن اختلفت أشكالها:
احتكار الهداية مقابل الدعوة إلى الحق
يمثل ادعاء فرعون "وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" نموذجاً لاحتكار الطاغية للحقيقة والهداية. فهو لا يكتفي بفرض سلطانه المادي، بل يدّعي احتكار الرشاد نفسه. وفي المقابل، يأتي خطاب المؤمن الناهض "اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ" ليكشف زيف هذا الاحتكار. فهو لا يدّعي امتلاك الهداية، بل يدعو إلى اتباع دلائلها، كما بين الرازي بقوله: "وليس المراد بقوله {اتبعون} طريقة التقليد لأنه قال بعده {أهدكم سبيل الرشاد} والهدى هو الدلالة".
القوة المادية مقابل قوة الحقيقة
تتجلى المقابلة بين القوة المادية والحقيقة في موقف الطرفين: فبينما يعتمد فرعون على قوته المادية وسلطانه، متباهياً بقدرته على بناء الصروح العظيمة "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ"، يقف المؤمن الناهض معتمداً على قوة الحقيقة وحدها، وقد وصف سيد قطب موقفه بقوله: "ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة، بعدما دعا القوم إلى اتباعه في الطريق إلى الله، وهو طريق الرشاد وكشف لهم عن قيمة هذه الحياة الزائلة". فقوته تنبع من وضوح الحق الذي يدعو إليه، لا من سلطان مادي يستند إليه.
ادعاء الرشاد مقابل حقيقته
يمثل تلبس الطاغية بشعارات الرشاد والهداية سمة متكررة في كل عصر. فكما ادعى فرعون أنه يهدي قومه سبيل الرشاد، يتلبس الطغاة في كل عصر بشعارات الحق والهداية. لكن الناهض، كما يبين البقاعي، يكشف أن سبيل الرشاد الحقيقي "مع سهولته واتساعه موصل ولا بد إلى المقصود". فالفرق جوهري بين من يدّعي الرشاد لفرض سلطانه، ومن يدعو إليه لهداية قومه.
خاتمة
تبقى قصة مؤمن آل فرعون نموذجاً حياً لكل ناهض في مواجهة طغيان عصره. فرغم تغير الأسماء والأشكال، يبقى جوهر المواجهة واحداً: صراع بين الحق والباطل، بين الرشاد والغي. ويبقى درس المؤمن الناهض ماثلاً: أن القوة الحقيقية تكمن في وضوح الحق وثبات موقفه، لا في سطوة السلطان وبطش الطغيان.
كتب حسان الحميني
والله الموفق