هذا المقال يتناول مفهوم الناهض كإنسان مؤمن يستشعر مسؤولية الاستخلاف ويكتشف قدراته ليسخرها في البناء والإصلاح. يستلهم المقال من نموذج داود عليه السلام كـ"ذا الأيد" ليطرح رؤية متكاملة حول كيفية تمهير الجوارح (أي إتقان استخدامها) والجمع بين المهارة التقنية والبصيرة الروحية في تحقيق العمران. يقدم المقال خطوات عملية للناهض المعاصر ويربط المفاهيم القرآنية بالتحديات التكنولوجية الحديثة، مؤكداً أن الغاية من اكتشاف القدرات وتنميتها هي تحقيق العبودية الشاملة والمساهمة في نهضة الأمة.
مقدمة : مفهوم الناهض في ضوء الاستخلاف
إن الناهض هو ذلك الإنسان المؤمن الذي يستشعر مسؤولية الاستخلاف، فيقوم بدوره في عمارة الأرض وتحقيق العبودية بمفهومها الشامل. ليس الناهض مجرد متعبد منعزل، بل هو فاعل إيجابي يسعى لاكتشاف ما وهبه الله من قدرات وإمكانات، ثم يسخرها في سبيل الحق والخير. يقدم لنا القرآن الكريم نموذجاً ملهماً في شخصية داود عليه السلام، الذي وصفه الله تعالى بقوله: "واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب" [ص: 17]. فكيف يمكن للناهض اليوم أن يكتشف قدراته ويوظفها في نهضة الأمة وعمارة الأرض؟
معنى "الأيد" وعلاقتها بالقدرات المتعددة للناهض
وردت كلمة "الأيد" في وصف داود عليه السلام بصيغة الجمع، وهي في اللغة العربية جمع "يد" (الأيْد من الأيادي). وهذا الجمع في الوصف له دلالة عميقة على تعدد القدرات والإمكانات التي منحها الله لداود، وتشير إلى :
- تعدد المواهب والقدرات : فلم يكن داود متميزاً في مجال واحد، بل في مجالات متعددة (العبادة، الحكم، القضاء، صناعة الدروع، الفنون).
- التكامل بين القدرات : استخدام صيغة الجمع يدل على التكامل والترابط بين هذه المهارات المتنوعة.
- القوة المتعددة الأبعاد : ليست القوة المادية فحسب، بل القوة الروحية والفكرية والأخلاقية أيضاً.
هذا يعلمنا أن الناهض الحقيقي هو من يجمع بين أنواع مختلفة من القدرات ويتقنها جميعاً، لا من يتفوق في مجال واحد فقط.
قدرات الناهض: منح ربانية تستلزم الاكتشاف والتمهير
لقد كرم الله الإنسان وزوده بقدرات متنوعة، جسدية وعقلية وروحية. يقول تعالى : "ولقد كرمنا بني آدم" [الإسراء: 70]. وفي سورة ص، نجد إشارات متعددة إلى مفهوم "اليد" بمشتقاتها المختلفة، بدءاً من وصف داود بأنه "ذا الأيد"، ومروراً بقوله تعالى: "وخذ بيدك ضغثاً" [ص: 44]، ووصف إبراهيم وإسحاق ويعقوب بأنهم "أولي الأيدي والأبصار" [ص: 45]، وانتهاءً بقوله تعالى عن خلق آدم: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" [ص: 75].
هذا التكرار يوحي بأهمية اكتشاف القدرات التي وهبها الله للإنسان وتطويرها وإتقانها، أي تمهيرها. فالجوارح البشرية ليست مجرد أعضاء بيولوجية، بل هي أدوات للعمران والاستخلاف تحتاج إلى تنمية وتدريب وإتقان.
تفسير "الأيد": القوة المتعددة الأبعاد والمهارة المتقنة
عندما نتأمل في تفسير "الأيد" في وصف داود عليه السلام، نجد أنها تحمل معاني متعددة:
- القوة في العلم والعمل : يقول ابن كثير: "الأيد: القوة في العلم والعمل..."
- القوة المسخرة في خدمة الدين : يقول ابن عاشور: "وهذه القوة محمودة لأنه استعملها في نصر دين التوحيد..."
- القوة المتعددة المواهب : وهذا ما يفهم من صيغة الجمع (الأيد) التي تشير إلى تعدد مواهب النفع للمجتمع.
- المهارة والإتقان : وهذا يشير إلى أن القوة الحقيقية لا تكون إلا مع الإتقان والمهارة، فاليد المدربة أكثر فاعلية من اليد القوية غير الماهرة.
- تمهير الجوارح : بعد عملي للاستخلاف
إن مفهوم "تمهير الجوارح" - أي تأهيلها وإتقان استخدامها - يُعد جانباً أساسياً في تحقيق العمران البشري الذي أراده الله تعالى. فالإنسان لم يُخلق بهذه الجوارح عبثاً، بل لتكون أدوات فاعلة في تحقيق مهمة الاستخلاف:
اليد كرمز للعمل والإتقان :
تكرار ذكر اليد ومشتقاتها في قصة داود وغيرها يشير إلى أهمية تطوير المهارات اليدوية والعملية. كما قال تعالى: "وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم" [الأنبياء: 80].
التمهير كتكريم للإنسان :
إن قوله تعالى عن خلق آدم: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" [ص: 75] يشير إلى التكريم الإلهي للإنسان، الذي يقتضي منه أن يُكرِّم نفسه بتمهير جوارحه وتسخيرها فيما يليق بهذا التكريم.
الجوارح كأمانة :
يقول تعالى: "...إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" [الإسراء: 36]. فالجوارح أمانة يُسأل عنها الإنسان، وتمهيرها هو أحد أوجه أداء هذه الأمانة.
كيف اكتشف داود قدراته وسخرها؟
يقدم لنا داود عليه السلام نموذجاً رائعاً في اكتشاف القدرات وتمهيرها وتسخيرها. يقول تعالى: "ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد" [سبأ: 10]. لقد اكتشف داود قدرته على تطويع الحديد، فصنع منه دروعاً واقية في معركته ضد الباطل.
كما اكتشف موهبته في التسبيح والعبادة، فكان يسبح مع الجبال والطير. واكتشف قدرته على الحكم والقضاء، فكان يحكم بالعدل بين الناس. وفي كل هذه المجالات، لم يكتف داود باكتشاف قدراته، بل عمل على تمهيرها وإتقانها حتى بلغ فيها درجة عالية من الكفاءة.
أبعاد تمهير الجوارح في العمران البشري
إن تمهير الجوارح يتجاوز مجرد الإتقان التقني إلى أبعاد أعمق ترتبط بالعمران البشري:
البعد المعرفي والمهاري :
تطوير القدرات العقلية واليدوية معاً، كما جمع داود بين الحكمة وصناعة الدروع.
البعد الأخلاقي :
تمهير الجوارح يشمل ضبطها أخلاقياً، فاليد التي تُحسن الصنعة يجب أن تُحسن الأمانة أيضاً. يقول تعالى في وصف عباد الرحمن: "والذين لا يشهدون الزور" [الفرقان: 72]، وهذا يشمل تمهير اللسان والسمع والبصر أخلاقياً.
البعد الاجتماعي :
تسخير المهارات لخدمة المجتمع، كما سخَّر داود مهارته في صناعة الدروع لحماية المؤمنين. يقول النبي ﷺ: "خير الناس أنفعهم للناس".
البعد الحضاري :
تمهير الجوارح يسهم في بناء حضارة متكاملة، تجمع بين العلم والعمل، وبين القيم والإنجاز المادي.
من النظرية إلى التطبيق : خطوات عملية للناهض
التأمل الذاتي والاكتشاف :
على الناهض أن يتأمل في ذاته ليكتشف ما وهبه الله من مواهب وقدرات، سواء كانت علمية أو عملية أو فنية أو اجتماعية.
تنمية القدرات وصقلها (تمهيرها) :
اكتشاف القدرات لا يكفي، بل لا بد من تنميتها وصقلها بالتعلم والممارسة والصبر.
توجيه القدرات نحو الخير :
ليست العبرة بامتلاك القدرات، بل في توجيهها نحو ما يرضي الله ويخدم الخلق، كما فعل داود عليه السلام.
التكامل بين القدرات المختلفة :
الناهض الحقيقي يسعى للتكامل بين قدراته المختلفة، فيجمع بين "الأيدي والأبصار" أي بين القوة العملية والبصيرة النافذة.
الإخلاص والتواضع:
على الناهض أن يتذكر دائماً أن هذه القدرات منح من الله تستلزم الشكر والتواضع، لا التكبر والغرور.
أمثلة معاصرة لتمهير الجوارح في مجالات متنوعة
في مجال التقنية الرقمية :
- مهندس البرمجيات المسلم الذي يتقن لغات البرمجة ويطور تطبيقات تخدم قضايا الأمة
- خبير الأمن السيبراني الذي يحمي المؤسسات الإسلامية من الاختراقات والهجمات
- مصمم المواقع الذي يوظف مهاراته في نشر المحتوى الهادف ودعم القضايا الإنسانية
في مجال الطب :
- الجراح المسلم الذي يتقن تخصصه ويطور أساليب جراحية جديدة، ويقدم خدماته للفقراء
- الباحث الطبي الذي يسخر معرفته لإيجاد علاجات لأمراض منتشرة في المجتمعات الفقيرة
في مجال التعليم والتربية :
- المعلم المتقن لأساليب التدريس الحديثة، المتمكن من توظيف التكنولوجيا في نقل المعرفة
- المربي الذي يجمع بين فهم النفس البشرية وبين المهارات العملية في تربية النشء
في مجال الأعمال والاقتصاد :
- رائد الأعمال المسلم الذي يبتكر نماذج أعمال تعالج مشكلات مجتمعية حقيقية
- المستثمر الأخلاقي الذي يوجه رأس ماله نحو مشاريع تنموية مستدامة تخدم المجتمع
التكنولوجيا المعاصرة: امتداد لتمهير الجوارح
في عصرنا الحالي، يمكن النظر إلى التكنولوجيا كامتداد لجوارح الإنسان، وتمهيرها هو امتداد لمفهوم "ذا الأيد" في سياق معاصر:
تحويل التقنية إلى أداة بناء :
كما حوَّل داود الحديد من أداة حرب إلى دروع واقية، فإن الناهض المعاصر مطالب بتحويل التكنولوجيا من أداة استهلاك إلى أداة بناء وإنتاج.
التكامل بين الإنسان والآلة :
ليست الغاية استبدال الجوارح البشرية بالآلات، بل تكاملها معها لتحقيق عمران أفضل، كما تكاملت يد داود مع الحديد اللين.
الاستخدام الرشيد للتقنية :
تمهير الجوارح في العصر الرقمي يتطلب حسن استخدام التكنولوجيا بما يحقق المقاصد الشرعية ويحفظ الهوية والقيم.
العبودية الشاملة : غاية اكتشاف القدرات وتمهيرها
إن الغاية النهائية من اكتشاف القدرات وتنميتها وتمهيرها هي تحقيق العبودية الشاملة لله تعالى، التي تتجاوز الشعائر التعبدية إلى عمارة الأرض وإصلاح المجتمع. كما وصف الله داود بأنه "عبدنا" مع كونه "ذا الأيد"، فإن القوة الحقيقية تكمن في توظيف كل الإمكانات في طاعة الله.
نحو تربية متكاملة للناهض
إن تربية الناهض في ضوء مفهوم تمهير الجوارح تتطلب منهجاً متكاملاً:
اكتشاف المواهب وتنميتها :
مساعدة كل فرد على اكتشاف ما تميل إليه جوارحه ويتقنه، ثم تنميته.
التربية على الإتقان :
غرس قيمة الإتقان في العمل، امتثالاً لقوله ﷺ: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".
ربط المهارة بالقيمة :
عدم فصل تمهير الجوارح عن القيم الأخلاقية والروحية، لئلا تتحول القدرة إلى طغيان. يقول تعالى: "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" [العلق: 6-7].
التوازن بين المجالات :
تمهير مختلف الجوارح بتوازن، فلا تطغى المهارات التقنية على الجوانب الروحية والاجتماعية، ولا العكس.
خاتمة: نحو ناهض متعدد المهارات
إن النهضة الحقيقية التي تحتاجها أمتنا اليوم تتطلب ناهضين يتميزون بتمهير جوارحهم في مختلف المجالات، يجمعون بين:
- - إتقان العمل اليدوي والتقني
- - عمق الفهم والبصيرة
- - سلامة القلب والنية
- - قوة الإرادة والهمة
وهذا ما يجعل الناهض محققاً لمعنى "أولي الأيدي والأبصار" في العصر الحديث. فيكون قادراً على المساهمة الحقيقية في عمارة الأرض وبناء الحضارة، مستلهماً من قصة داود عليه السلام التكامل بين المهارة والحكمة، وبين القوة والأخلاق، وبين الإبداع التقني والعبودية الخالصة لله.
وكما ألان الله لداود الحديد، فإن الله قد يسر للإنسان المعاصر إمكانات وتقنيات هائلة، تنتظر من يكتشفها ويحسن توظيفها في الخير. فمتى يدرك الناهضون أن حقيقة "ذا الأيد" تتجدد في كل زمان ومكان، وأن الأمة تنتظر من يستثمر طاقاته وإمكاناته في نهضتها وإصلاحها؟
إن اكتشاف القدرات وتمهيرها وتسخيرها في الخير ليس ترفاً فكرياً، بل هو جزء أساسي من الاستخلاف الذي كرم الله به الإنسان. فلنكن جميعاً "أولي الأيدي والأبصار" في زماننا، نستلهم من قصة داود عليه السلام الهمة العالية في اكتشاف ما وهبنا الله وتسخيره في عمارة الأرض وإصلاح المجتمع.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.