النهضة بين الشرع والعلم: كيف نعيد التوازن ونحقق الفاعلية؟
النهضة الحقيقية تشبه طائرًا لا يستطيع التحليق إلا بجناحين متكاملين. كثيرون يركزون على جناح واحد فقط، وهو العبادات والشعائر، لكنه وحده لا يكفي للنهوض بالمجتمعات. الجناح الآخر، وهو العلوم الإنسانية والمعرفة التطبيقية، ضروري لتفعيل الجناح الأول وجعله مؤثرًا في الواقع. الإسلام لم يكن مجرد عبادات، بل رسالة تدعو إلى العمران والعدل، وهذان المفهومان لا يتحققان إلا من خلال الجمع بين الشرع والعلم.
إذا استطعنا التحول من التركيز على الشعائر فقط إلى بناء الحضارة، فإننا سنحوّل المسلم من إنسان منتظر للأحداث إلى إنسان فاعل ومؤثر في الحياة. هذا التحول ليس مجرد خيار، بل واجب ومسؤولية تقع على عاتق كل فرد في المجتمع.
كيف نكون فاعلين في نهضة الأمة؟
لكي نحقق التوازن بين جناحي النهضة، يجب علينا العمل على عدة محاور:
1. فهم الدين بصورة شاملة
• عدم الاكتفاء بأداء العبادات، بل فهم مقاصدها في تحقيق العدل والإحسان والعمران.
• إدراك أن العمل والإنتاج جزء لا يتجزأ من العبادة.
• ربط القيم الإسلامية بمشاريع عملية تنهض بالمجتمعات.
2. تنمية العلوم والمعرفة
• إتقان العلوم الإنسانية والاجتماعية لفهم المجتمعات وبناء سياسات حكيمة.
• التوسع في العلوم التطبيقية مثل التكنولوجيا والهندسة والطب لتعزيز التقدم.
• توظيف المعرفة في تحسين الواقع، وعدم تركها حبيسة الكتب والأبحاث.
3. التحول من التلقي إلى الفعل
• التوقف عن انتظار التغيير والمساهمة الفعالة في صنعه.
• تحويل القيم الإسلامية إلى مشاريع تنموية ونهج حياة عملي.
• بناء مؤسسات تعليمية واقتصادية تعتمد على الابتكار والتطوير المستمر.
4. تحقيق العدل والعمران
• جعل العدل والقسط مبدأً أساسياً في جميع المجالات.
• المساهمة في بناء مجتمع متوازن يجمع بين الروح والعلم والعمل.
• دعم المبادرات الاقتصادية والاجتماعية التي تحقق التنمية المستدامة.
المهارات المطلوبة للمساهمة في النهضة
للقيام بهذا التحول، هناك مجموعة من المهارات التي يجب التركيز عليها، وهي مقسمة حسب الأولويات:
أولًا: المهارات العاجلة والمهمة
• التفكير النقدي وحل المشكلات – لفهم الواقع واتخاذ قرارات سليمة.
• إدارة الوقت والإنجاز – لتحويل الأفكار إلى مشاريع مؤثرة.
• التواصل الفعّال والتأثير – لنشر المعرفة وبناء فرق عمل ناجحة.
• التعلم الذاتي والتكيف مع التغيرات – لمواكبة التطورات السريعة في العالم.
• القيادة والمسؤولية الاجتماعية – لتحفيز التغيير والمبادرات المجتمعية.
ثانيًا: المهارات التطبيقية العاجلة
• التحول الرقمي والتكنولوجيا – لفهم أدوات العصر والتفاعل معها بفعالية.
• إدارة المشاريع وريادة الأعمال – لتحويل الأفكار إلى مشاريع تنموية.
• التخطيط الاستراتيجي وإدارة الأهداف – لضمان استمرارية التأثير.
• مهارات الاقتصاد والاستثمار – لتحقيق الاستقلال المالي والتنمية الاقتصادية.
• الابتكار والإبداع – لإيجاد حلول جديدة لمشاكل المجتمع.
ثالثًا: المهارات طويلة المدى
• العلوم الإنسانية والاجتماعية – لفهم المجتمعات وبناء فكر متوازن.
• العلوم الطبيعية والهندسية – لتطوير الصناعات وتحقيق التقدم التقني.
• الصحة والتغذية – لبناء أفراد قادرين على العطاء والإنتاج.
• التربية والتعليم – لإعداد أجيال تحمل مشعل النهضة.
• الدبلوماسية وبناء العلاقات الدولية – لتعزيز التعاون والتأثير العالمي.
الفجوات التي تعيق النهضة البشرية
رغم التقدم الذي وصلت إليه البشرية، لا تزال هناك فجوات كبيرة تعيق النهضة الحقيقية. هذه الفجوات يمكن تصنيفها كما يلي:
1. فجوات العلوم والتفكير
• عدم تحويل المعرفة إلى تطبيقات عملية، حيث تبقى الأبحاث في إطار الأكاديميا دون حلول فعلية.
• ضعف التفكير النقدي والتحليلي، مما يؤدي إلى انتشار التضليل والمعلومات الخاطئة.
• غياب الوعي الحضاري والتاريخي، مما يجعلنا نكرر أخطاء الماضي.
• نقص البحث العلمي في العلوم الإنسانية، مما يحد من القدرة على فهم المجتمعات والتعامل معها بفعالية.
2. فجوات المهارات البشرية
• ضعف مهارات القيادة واتخاذ القرار، مما يحد من القدرة على إدارة التغيير بفعالية.
• نقص مهارات ريادة الأعمال، مما يضعف الابتكار والنمو الاقتصادي.
• ضعف ثقافة التعلم المستمر، حيث يتوقف الكثيرون عن التعلم بعد التعليم الرسمي.
• قصور في مهارات التواصل وبناء العلاقات، مما يعيق التعاون والعمل الجماعي.
3. فجوات التكنولوجيا والتطبيقات العملية
• التأخر في تطوير الذكاء الاصطناعي والتقنيات المستقبلية مثل الروبوتات والحوسبة الكمية.
• نقص الابتكار في الطاقة المستدامة، مما يؤدي إلى استهلاك غير فعال للموارد.
• ضعف الاستثمار في علوم الفضاء والاستكشاف، مما يحد من قدرة البشرية على التوسع خارج الأرض.
• قصور في التكنولوجيا الطبية وعلاج الأمراض المزمنة، مما يعوق تحسين جودة الحياة.
• التأخر في تطوير الأمن السيبراني، مع تزايد التهديدات الرقمية.
4. فجوات الاقتصاد والتنمية
• التفاوت الكبير في توزيع الثروات، مما يؤدي إلى عدم استقرار اجتماعي واقتصادي.
• ضعف التنمية في الدول الفقيرة، مما يحد من قدرة الشعوب على تحقيق الازدهار.
• عدم كفاءة نظم التعليم التقليدية، مما يؤدي إلى فجوة بين المهارات المطلوبة وسوق العمل.
• قلة الاستثمارات في الاقتصاد الرقمي، مما يضعف فرص الابتكار والتقدم.
5. فجوات القيم والمجتمع
• ضعف القيم الأخلاقية في استخدام التكنولوجيا، مما يؤدي إلى استغلالها بشكل غير مسؤول.
• غياب التوازن بين الروحانية والمادية، مما يخلق فراغًا أخلاقيًا وثقافيًا.
• ضعف ثقافة المسؤولية الاجتماعية، حيث لا يشارك الأفراد والشركات بما يكفي في تنمية مجتمعاتهم.
• تفكك مفهوم العائلة والمجتمع، مما يؤثر سلبًا على الاستقرار الاجتماعي.
كيف نعالج هذه الفجوات ونحقق النهضة؟
لتحقيق النهضة الحقيقية، يجب العمل على:
• تعزيز البحث العلمي والتطبيق العملي في مجالات التكنولوجيا والعلوم الإنسانية.
• إصلاح أنظمة التعليم لتصبح أكثر تركيزًا على المهارات والابتكار.
• تحفيز الاستثمار في الطاقة النظيفة والتكنولوجيا المتقدمة.
• إدخال القيم والأخلاق في استخدام التكنولوجيا لضمان العدل والمسؤولية.
• تشجيع التعلم المستمر وبناء بيئات معرفية داعمة.
الخاتمة
النهضة ليست مجرد شعارات، بل تتطلب عملًا جادًا ومتواصلًا. كل فرد يستطيع أن يكون جزءًا من هذا التغيير من خلال تعلم المهارات، وتطبيق المعرفة، والمساهمة في بناء مجتمع متقدم ومتوازن. الطريق طويل، لكنه يستحق الجهد، لأن النهضة تبدأ بكل واحد منا.
د.سامر الجنيدي - القدس