في الآية 159 من سورة آل عمران﴿فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اَ۬للَّهِ لِنتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ اَ۬لْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِے اِ۬لَامْرِۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اَ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لْمُتَوَكِّلِينَۖ﴾، يرسم القرآن الكريم منهجاً متكاملاً للتعامل مع الحياة، حيث يجمع بين الرحمة والعزم، والشورى والحسم. وهو منهج يتجلى في جوهره مفهوم التوكل - ذلك المفهوم العميق الذي فصّل فيه العلامة ابن عاشور.
جوهر التوكل: رؤية ابن عاشور
يرى ابن عاشور أن التوكل "انفعال قلبي عقلي يتوجه به الفاعل إلى الله راجياً الإعانة ومستعيذاً من الخيبة والعوائق". وهو ليس مجرد سكون أو انتظار، بل حركة واعية يتوجه فيها الإنسان لله بكل همته. فالتوكل - كما يوضح - "مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله، وهو شأن أهل الإيمان". وربما يرافقه "قول لساني وهو الدعاء".
التوكل : فطرة إنسانية وسنة كونية
يؤكد ابن عاشور أن التوكل متأصل في فطرة الإنسان. فقد جبل الله الناس على محبة الفلاح وتطلب الصلاح. ولعل أروع ما يستشهد به هو حوار الله مع الملائكة عند خلق الإنسان: {إني جاعل في الأرض خليفة}، حيث عرض الله مراده عليهم ليجعل التشاور سنة في البشر.
الشورى : التطبيق العملي للتوكل
ليست الشورى مجرد إجراء شكلي، بل هي تفعيل حقيقي للتوكل. يروي البخاري في صحيحه أن الأئمة بعد النبي كانوا "يستشيرون الأمناء من أهل العلم"، وكان عمر رضي الله عنه يجعل القراء - كهولاً وشباناً - أصحاب مشورة.
روى الخطيب عن علي رضي الله عنه أنه قال للنبي: "يا رسول الله الأمر ينزل بعدك لم ينزل فيه قرآن"، فأجاب: "اجمعوا له العابِد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد".
أبعاد التوكل في التعامل
1. اللين : توكل في التعامل
يتجلى اللين كتطبيق عملي للتوكل، حيث يكون الإنسان رحيماً، منفتحاً، قريباً من الناس. فاللين ليس ضعفاً، بل قوة موجهة بحكمة.
2. العزم: توكل في الحسم
العزم بعد الشورى والتفكر، والمضي قدماً بثقة بعد استشارة أهل العلم والخبرة. فالتوكل لا يعني التردد، بل الحسم مع الثقة بالله.
3. العفو: توكل في التسامح
العفو تجلٍ آخر للتوكل، حيث يترك الإنسان الأذى لله، ويفتح صفحة جديدة، متجاوزاً الضغائن والأحقاد.
4. الاستغفار: توكل في التطهير
الاستغفار - بمعنى الستر - يمثل توكلاً في تطهير النفس وتجديدها، والارتقاء فوق الأخطاء.
لماذا يحب الله المتوكلين؟
المتوكل الحقيقي هو من يجمع بين العمل المتقن والتسليم الكامل لله. إنه يعمل بكل جهده، يستشير ذوي العلم والخبرة، وإن من الأسباب ثقته المطلقة بالله. فهو لا يركن إلى كسل أو تواكل، بل يسعى بهمة عالية ثم يركن إلى رحمة الله وتدبيره.
يتميز المتوكل بقدرته على خفض جناحه للناس، فيكون رحيماً لينًا، ومع ذلك يحسم أموره بعزم وثبات. يعفو عند المقدرة، ويستغفر متجردًا من الكبرياء، يرى فضل الله في كل خطوة يخطوها.
خاتمة:
التوكل منهج حياة متكامل يتجاوز مفهوم العمل التقليدي. إنه حالة روحية وعملية في آن واحد، تجمع بين الإرادة الصلبة والرحمة العميقة. فالمتوكل لا يستسلم للظروف ولا يغرق في التفاؤل الأعمى، بل يعمل بحكمة ويتوكل بإخلاص.
يصنع التوكل الناهض القادر على التغيير، المتوازن في فكره وعمله، المؤمن بقدرة الله وقدرته في آن واحد. إنه منهج يحول الإرادة البشرية إلى طاقة إيجابية خلاقة، ويرتقي بالناهض من مجرد فاعل إلى مبدع يستمد قوته من توكله على الله.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.