تحول بعض التيارات الفردانية إيجاد تربة خصبة لها في نفوس المرهقين والمتعبين من معارك الحياة الطاحنة..
تحاول إقناع النبيل الذي تكاثرت عليه الطعنات الغادرة أن يكف عن نبله ويتقهقر في مواطن الإقدام مؤثرا السلامة..
تحاول إقناع الشهم الذي ينتخي لنصرة المستغيث كريما كان أو لئيما أن يكف بعدما تشوهت يده من عضات الأفاعي ..
تحاول إقناع الكريم الذي تساقط في عراء الدنيا وحيدا شريدا أن يقبض كفه عن العطاء فلا جدوى من البذل غير الافتقار..
تحاول إقناع الحليم الذي أنهكته "لابأس" وكل البأس بقلبه وروحه أن يصب جام غضبه على من يؤذيه منتقما باطشا..
ربما لهذه الآراء وجاهتها في كف الأذى عن النفس وهو حق واجب شرعا وعرفا وعادل في سنن الكون..
لكن كيف يمكن أن يصير المرء بعدما فقد جزء من مكونات ماهيته وطبيعته؟
إذا نظر للمرآة هل يستطيع التعرف على نفسه ؟
هل يستطيع النظر في قعر عينه ويلمس قلبه ويشعر بالسلام والتصالح؟
هل سيكون سعيدا بعدما غلبه الواقع مرتين مرة بأذيته ومرة بإجباره على التخلي عن مكون رئيس من ماهيته؟
ألا ساء ما تصفون وتحكمون..
الحق أن التعرض للأذى مهما كانت أسبابه واجب الكف وأن طول احتمال الأذى مع القدرة على دفعه مأزور شرعا وعامل رئيس في تشويه الفطرة..
ولكن كف الأذى لا يحتاج تخليا عن الطباع بل وقفة تأمل وإعادة موضعة لأحجار الواقع ووصفها بحقيقتها المجردة من العواطف والانفعالات..
بعدما يكون قد بذل كل الحيل والأسباب المحكمة بالحقيقة لا بالظن لكف الأذى دون قرار فيصلي..
ثم يروي المرء قليلا حتى تهدأ جمرة الألم وينقشع الدخان ويتأكد أن حكمه مازال كما هو..
هنا يقرر أن كف الأذى قد وجب وآن أوان التفكير في طريقة دفعه..
الخسارة أحيانا لبعض المغانم، أو التخلي عن بعض النفائس، أو قطع بعض العلاقات، أو إغلاق بعض الأبواب، أو تغيير آلية التعامل..
يفكر كثيرا فيما إذا تحقق هذا الأمر هل يضمن له سلامة من الأذى وأمانا؟
هل هو قادر على تحمل ألم المغرم بهذا القرار؟
وهل المغرم يوازي المغنم بالسلامة من الأذى؟
ليعش مع نفسه ردحا من الزمن متأملا في كل تفاصيل "ماذا لو حدث"؟
وأخيرا وبعد استخارة إذا استقر رأيه على إنفاذه؛ يأتي دور التحدي الأكبر..
كيف سيفعل؟
كيف سيقدر على سحب كفه ممن ضمنها وظنها ملك مطلق؟
كيف سيضع سدا أمام حلمه أمام من ظن أن "لا بأس" حق مكتسب وملك أبدي؟
كيف سيقف أمام نفسه وهو ينازعها بعض عاداتها؟
عليه أن يتحلى بشجاعة خارقة وجسارة منقطعة يواجه بها نفسه مرارا حتى يكسر مقاومتها ويجرعها كأس العلقم ذاك ويقنعها بأنه الترياق الوحيد من النزيف المستمر..
حين يقدر على نفسه ويتصالح مع مقصده وتهدأ عاطفة الألم في جوفه ويخبو الجمر تحت الرماد؛ يلبس على الجمر درعا من الثبات والاقتدار..
ويسير بخطى ثابتة إلى ملجئه الأخير وخلاصه المر من أذى أضنى روحه وقوته ونغص عيشه دهرا..
في تلك اللحظات سيخطر بين عينه كل السنن الكونية التي يمكن أن توقفه..
ماذا لو حدثت كارثة ؟
ماذا لو حدث زلزال أو طوفان؟
ماذا لو حدث في البلاد انقلاب؟
ماذا لو سقطت ميتا قبل أن أفعل؟
ماذا لو سقطت وارتطمت رأسي وفقدت الذاكرة؟
هنا يجب أن يقف لحظة ويسأل نفسه السؤال الأول هل هناك لبس أو ريبة في الحكم؟
هل بذلت أسبابك في الإفصاح عن أذاك وتأكدت من الطرف الآخر أنه قد وصله أنينك؟
هل هناك خير ادخرته في هذا السبيل؟
لو مت بعد قرارك هل ستكون في ميزان الله ظالما؟
إذا كان الجواب لا.. فعليه أن يتجشم عناء خطواته الثقال فلم يبق في القوس منزع..
ربما يكون هذا أسوأ يوم في حياته.. وأقسى إجراء سيتكبد عناءه..
سيندم كثيرا بعد اتخاذه وتسبر روحه في أغوارا بعيدة لفترة من الزمن..
في هذه الأثناء هو في إجازة من كل قرار مصيري.. عليه أن يجد ملجأ آمنا يرمم فيه روحه..
بعد فترة قصيرة ستطفو على سطح ذاكرته الكثير من الذكريات المؤلمة التي تسكن صراخ طبعه الجريح وتتضح الصور أكثر بين عينيه ويرى كم كان مفرطا في حق نفسه..
هنا ربما يكسر خاطره المستحق لكل بر ويألم لصبره الطويل ..
بعد فترة سيعود قويا ويبقى طبعه بالنبل أوالعطاء أو الشهامة باقيا..
لكن مكونا في نفسه قد انصهر وغدا شيئا آخر يباري حكمة الشيوخ ويفتقد بريقا كان في عفويته..
لعل السؤال الذي سيزاحم كل شيء عند عودته: هل استحق هؤلاء كل تلك المعاناة؟
هل كان بذلي وحلمي يعني لهم شيئا من تضحيتي؟
بكل أسف ستكون الإجابة لا..
وهكذا سيبقى للفطرة طبعها ونقاؤها مع صبغة الشمس على جبين الوليد وخشونة كف الناضج من وعثاء الحياة..
لعل أولى الناس بالرحمة والمحابة والتقدير والمداراة هؤلاء الذي ينفقون من معين من لا يخشى الفقر ولا تحيد بهم سوء الإجابة عن جادة الطبع..
أيها الناس اتقوا الله في أولئك المعمرين الأرض بالخير الذين تخضر الفيافي تحت أقدامهم برحاب موطئهم.. أفرادا كانوا أو كيانات أو جماعات..
فاطمة بنت الرفاعي