استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

البحرانِ العذبُ والمالحُ (دروسٌ للناهضِ من تفسيرِ آيةِ فاطر)


الآية 12 سورة فاطر

وَمَا يَسْتَوِے اِ۬لْبَحْرَٰنِ هَٰذَا عَذْبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلْحٌ ا۟جَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَاكُلُونَ لَحْماٗ طَرِيّاٗ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةٗ تَلْبَسُونَهَاۖ وَتَرَي اَ۬لْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِۦ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَۖ (12)

في خضمِّ مسيرةِ النهضةِ، يواجهُ الناهضُ تنوعاً في البيئاتِ والتجاربِ والأشخاصِ، بعضُها يبدو عذباً سائغاً، وبعضُها الآخرُ يبدو مالحاً صعبَ التقبُّلِ. وفي هذا السياقِ، تقدِّمُ الآيةُ الكريمةُ من سورةِ فاطرَ دروساً عميقةً في كيفيةِ استخراجِ المنافعِ من كلِّ هذه البيئاتِ، مهما تنوَّعت طبيعتُها وتباينت خصائصُها.

 المنافعُ الكامنةُ في التناقضِ الظاهريِّ

يقدِّمُ الإمامُ البقاعيُّ رؤيةً عميقةً في تفسيرِه حين يقولُ: "لمَّا كان الملحُ متعذِّراً على الآدميِّ شربُه، ذكر أنه خلق فيه ما حياتُه به مساوياً في ذلك للعذبِ". هذا التفسيرُ يؤسِّسُ لحقيقةٍ مهمةٍ للناهضِ: أنَّ ما قد يبدو متعذِّراً أو صعباً في ظاهرِه قد يحملُ في باطنِه منافعَ عظيمةً. فالبيئاتُ التي قد تبدو "مالحةً" أو صعبةَ التقبُّلِ في مسيرةِ النهضةِ، قد تحملُ في طيَّاتِها فرصاً وإمكاناتٍ لا تقلُّ عن تلك الموجودةِ في البيئاتِ "العذبةِ" المريحةِ.

 تفاوتُ التحدياتِ وتنوُّعُ المنافعِ

يضيءُ الإمامُ الطبريُّ جانباً مهمّاً في فهمِ طبيعةِ هذا التنوُّعِ بقولِه: "الفراتُ: هو أعذبُ العذبِ... والأُجاجُ: المرُّ، وهو أشدُّ المياهِ ملوحةً". هذا التفاوتُ في درجاتِ العذوبةِ والملوحةِ يقدِّمُ للناهضِ درساً في أهميةِ التمييزِ بين مستوياتِ التحدياتِ والفرصِ. فكما أنَّ المياهَ تتفاوتُ في عذوبتِها وملوحتِها، فكذلك التحدياتُ والفرصُ في مسيرةِ النهضةِ تتفاوتُ في شدَّتِها وسهولةِ استثمارِها.

 آفاقٌ لا تنتهي من المنافعِ

يفتحُ التفسيرُ الأمثلُ آفاقاً رحبةً في فهمِ شموليةِ المنافعِ بقولِه: "بديهيٌّ أنَّ فوائدَ البحارِ لا يمكنُ حصرُها بالأمورِ التي ذُكِرَت أعلاه، والقرآنُ الكريمُ لا يريدُ بذلك أن يحدِّدَها ضمنَ تلك الأقسامِ الثلاثةِ المذكورةِ". هذا الفهمُ يؤسِّسُ لمنهجيةٍ مهمةٍ في العملِ النهضويِّ: أنَّ آفاقَ الاستفادةِ من المواردِ والفرصِ مفتوحةٌ وغيرُ محدودةٍ، وأنَّ على الناهضِ أن يتجاوزَ الأساليبَ التقليديةَ في استثمارِ المواردِ والفرصِ المتاحةِ.

 أهميةُ البصيرةِ في اكتشافِ المنافعِ

يشيرُ البقاعيُّ إلى نقطةٍ محوريةٍ في قولِه: "ولمَّا كان استقرارُ شيءٍ في البحرِ دونَ غرقٍ أمراً غريباً، لكنَّه صار لشدةِ إلفِه لا يقومُ بإدراكِ أنَّه من أكبرِ الآياتِ دلالةً على القادرِ المختارِ إلا أهلُ البصائرِ". هذا يؤسِّسُ لضرورةِ البصيرةِ والتعمُّقِ في فهمِ الظواهرِ والأحداثِ. فالناهضُ يحتاجُ إلى عينٍ بصيرةٍ تتجاوزُ السطحَ لتكتشفَ الفرصَ الكامنةَ والإمكاناتِ غيرَ المرئيةِ للعينِ العاديةِ.

 منهجيةٌ متكاملةٌ للنهضةِ

إنَّ تأمُّلَ هذه الشواهدِ التفسيريةِ يقدِّمُ للناهضِ منهجيةً متكاملةً في التعاملِ مع تنوُّعِ البيئاتِ والتحدياتِ في مسيرةِ النهضةِ. فهو مدعوٌّ للغوصِ عميقاً في كلِّ تجربةٍ، مهما بدت صعبةً أو غيرَ واعدةٍ في ظاهرِها، لاستخراجِ ما فيها من منافعَ. كما أنَّه مدعوٌّ للنظرِ إلى التناقضاتِ الظاهريةِ كفرصٍ للتكاملِ وليس كعوائقَ للتقدُّمِ. وفوقَ هذا كلِّه، هو مطالبٌ بتطويرِ بصيرتِه وقدرتِه على اكتشافِ المنافعِ الكامنةِ في كلِّ موقفٍ وتجربةٍ.



كتب حسان الحميني
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.