في محكم التنزيل يضرب الله تعالى مثلاً بليغاً لكل ناهض يسعى لبناء مشروع حضاري، إذ يقول سبحانه: ﴿أَفَمَنُ ا۟سِّسَ بُنْيَٰنُهُۥ عَلَيٰ تَقْو۪يٰ مِنَ اَ۬للَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ اَم مَّنُ ا۟سِّسَ بُنْيَٰنُهُۥ عَلَيٰ شَفَا جُرُفٍ ه۪ارٖ فَانْهَارَ بِهِۦ فِے ن۪ارِ جَهَنَّمَۖ وَاللَّهُ لَا يَهْدِے اِ۬لْقَوْمَ اَ۬لظَّٰلِمِينَۖ ﴾ [التوبة: 109]. تؤسس هذه الآية لمنهج متكامل في البناء والنهضة، منهج يستحق التأمل والتدبر لكل من أراد نهضة حقيقية راسخة.
المقابلة القرآنية: درس في التقييم
تتجلى في الآية الكريمة مقابلة عميقة بين منهجين في البناء، يوضحها ابن عطية بقوله: "من بنى بناء على قرار من الأرض مما يقر به، وينتفع به خير من من بنى بناء على المكان الذي لا يقر به، ويؤدي إلى الهلاك". تؤسس هذه المقابلة لمنهج تقييمي متكامل يجمع ثلاثة أبعاد رئيسة: سلامة الأرضية التي يقوم عليها البناء، ووضوح المقصد الذي يسعى إليه، وحتمية النتيجة التي سيؤول إليها.
مشهد الانهيار: تحذير للناهض
يرسم سيد قطب رحمه الله مشهداً حياً للانهيار بقوله: "إنه قائم على شفا جرف هار.. قائم على حافة جرف منهار.. قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار.. إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق!". يحمل هذا المشهد المتحرك تحذيراً واضحاً لكل ناهض من مغبة التأسيس على غير تقوى، ويكشف عن سنة التدرج في السقوط لكل بناء قام على غير أساس متين.
أولاً: سلامة التأسيس
يبين السياق القرآني أن التقوى ليست مجرد شعار يُرفع، بل هي منظومة عملية متكاملة تجمع بين صدق التوجه إلى الله تعالى وإتقان العمل وإحسانه. وكما يوضح المفسرون معنى التأسيس على التقوى بأنه "على الطاعة لله والإخلاص له ورضوان له وطلب مرضاته"، فإن هذا التكامل بين الإخلاص والإتقان، بين صدق التوجه وصحة العمل، هو الذي يضمن للمشروع النهضوي استدامته وثباته.
ثانياً: منهج التقييم المستمر
يقدم القرآن منهجاً للتقييم المستمر للمشاريع النهضوية، يقوم على مراقبة ثلاثة عناصر أساسية: سلامة الأساس وقوته، ووضوح المقصد واستقامته، والنفع العام وأثره. يضمن هذا المنهج للناهض القدرة على تصحيح المسار قبل فوات الأوان، ويحميه من الانزلاق التدريجي نحو الانحراف.
ثالثاً: الطمأنينة والثبات
يبين سيد قطب غاية هذا المشهد القرآني بقوله: "ذلك ليطمئن دعاة الحق على مصير دعوتهم، في مواجهة دعوات الكيد والكفر والنفاق!". تمنح هذه الطمأنينة النابعة من سلامة التأسيس الناهضَ قوةً في مواجهة التحديات وثباتاً عند اشتداد العواصف، وتحميه من التردد والاضطراب.
نحو نهضة راسخة
تنبهنا هذه الآية إلى منهج قرآني متكامل للبناء النهضوي يتجاوز الشعارات البراقة إلى التأسيس العميق. فحين تجتمع سلامة التأسيس على التقوى مع وضوح المقصد والغاية، وتتواصل عمليات التقييم والمراجعة في ضوء المبادئ الراسخة، تتشكل منظومة متكاملة للنهضة الحقيقية. وكما يختم سيد قطب: "وليطمئن البناة على أساس من التقوى كلما واجهوا البناة على الكيد والضرار!"، فهذا المنهج المتكامل هو السبيل الوحيد لبناء نهضة راسخة تتجاوز التحديات وتصمد أمام العواصف.
كتابة: حسان الحميني