تمثل قصة الرجل الصالح مع موسى عليه السلام في سورة الكهف نموذجاً فريداً في التفكير المنظومي وأهميته للعمل النهضوي. يتجلى ذلك في قوله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّيٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اِ۪سْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوَاْ اَنْ يُّضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراٗ يُرِيدُ أَنْ يَّنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذتَّ عَلَيْهِ أَجْراٗۖ}. تكشف هذه القصة عن أبعاد عميقة في فهم الأحداث وتجاوز النظرة السطحية إلى إدراك العلاقات المتشابكة بين مختلف عناصر المنظومة.
التفكير المنظومي: المفهوم والأهمية
يُعرَّف التفكير المنظومي بأنه نمط من التفكير يقوم على رؤية الظواهر والأحداث في سياقها الكلي، مع إدراك العلاقات المتشابكة بين عناصرها. يتجاوز هذا النمط النظرة الجزئية المباشرة إلى فهم شبكة العلاقات المعقدة التي تربط الأسباب بالنتائج، والظاهر بالباطن، والماضي بالحاضر والمستقبل. تكمن أهميته للناهض في قدرته على تجاوز ردود الفعل الآنية إلى الفعل المؤسس على رؤية شاملة للواقع بكل تعقيداته.
أركان التفكير المنظومي
الصبر والعلم
يشكل الصبر والعلم ركيزتين أساسيتين في بناء التفكير المنظومي. تتجلى هذه العلاقة الوثيقة في المواقف الثلاثة للرجل الصالح، حيث يظهر التلازم بين الصبر على تحمل الظاهر غير المفهوم، والعلم العميق بالحكمة الكامنة وراءه. يوضح هذا حسين فضل الله في شرحه للموقف الثالث بقوله:
"فقد كانا جائعين، فأبوا أن يضيفوهما لأنهم كانوا من البخلاء الذين لا يستقبلون الضيف ولا يكرّمونه... فبادر العبد الصالح إلى القيام بجهدٍ كبيرٍ لتثبيته وإقامته."
فرغم الجوع وسوء المعاملة، صبر الرجل الصالح وعمل بعلمه العميق بالحكمة الإلهية.
الربط بين المنظومات
يتجلى التفكير المنظومي في القدرة الفائقة على الربط بين العناصر المتباعدة ظاهرياً. ففي قصة الجدار، نرى نموذجاً متكاملاً لهذا الربط: الجدار المادي يرتبط بكنز معنوي، وحال الأيتام الحاضر يرتبط بمستقبلهم، وصلاح الأب في الماضي يرتبط بحفظ حق أبنائه في المستقبل. يشكل هذا النسيج المتشابك من العلاقات جوهر التفكير المنظومي.
تفاوت مستويات التفكير المنظومي
نظرة موسى عليه السلام
يقدم سيد قطب تحليلاً دقيقاً لاستغراب موسى عليه السلام، يكشف عن مستوى من مستويات التفكير المنظومي:
"وهنا يشعر موسى بالتناقض في الموقف. ما الذي يدفع هذا الرجل أن يجهد نفسه ويقيم جدارا يهم بالانقضاض في قرية لم يقدم لهما أهلها الطعام وهما جائعان؟"
يعكس هذا الاستغراب نظرة منظومية تربط بين العمل والجزاء، وبين المعاملة والمقابل، لكنها تقف عند حدود المنظور القريب.
نظرة الرجل الصالح
تمتاز نظرة الرجل الصالح بتجاوزها دائرة رد الفعل المباشر إلى دائرة العمل المؤسس على رؤية شاملة. فعمله لا يرتبط بسلوك أهل القرية، بل يتجاوزه إلى مصالح أبعد وأعمق. يمثل هذا المستوى من التفكير المنظومي تجاوزاً للظاهر إلى الباطن، وللقريب إلى البعيد.
مستويات الفهم والتعامل
يقدم البقاعي، نقلاً عن الحرالي، تحليلاً عميقاً لمستويات الفهم في القرآن، يضيء جوانب مهمة في التفكير المنظومي:
"ولتكرار الأسماء بالإظهار والإضمار بيان سنين الأفهام في القرآن... أحدهما يتقدم فيه الإظهار وهو خطاب المؤمنين بآيات الآفاق... والثاني يتقدم فيه الإضمار وهو خطاب الموقنين بآية الأنفس."
يكشف هذا التحليل عن مستويات متعددة في الفهم والتعامل، تتدرج من الظاهر إلى الباطن، ومن المباشر إلى العميق.
دروس للناهض
إمكانية ترقية التفكير المنظومي
تؤكد رحلة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح أن التفكير المنظومي قابل للترقية والتطور. يتضح هذا في مسار التعلم الذي يتضمن الصحبة مع أهل العلم، كما يتجلى في طلب موسى "هل أتبعك"، والتواضع في طلب المعرفة رغم المكانة العالية، والصبر على مواقف قد تبدو متعارضة في ظاهرها. يمثل هذا المسار شكلاً من أشكال التزكية التي ينبغي أن يسعى إليها الناهض في مسيرته النهضوية.
تفهم استغراب الآخرين
تقدم القصة درساً عميقاً في أن استغراب الآخرين من بعض المواقف أمر طبيعي. يتضح هذا في تحليل سيد قطب لموقف موسى عليه السلام:
"يشعر موسى بالتناقض في الموقف... أفلا أقل من أن يطلب عليه أجراً يأكلان منه؟"
يتعلم الناهض من هذا الموقف تفهم محدودية النظرة المباشرة عند الآخرين، واستيعاب الفروق في مستويات الفهم، والصبر على النضج التدريجي للأفهام. فإذا كان موسى عليه السلام، وهو في مكانته العلمية الرفيعة، قد استغرب، فمن باب أولى أن يتفهم الناهض استغراب الناس من بعض مواقفه ومبادراته.
الجمع بين المستويات
يكشف تحليل البقاعي، عن طريق نقله عن الحرالي، أهمية الجمع بين مستويات الفهم المختلفة:
"أحدهما يتقدم فيه الإظهار وهو خطاب المؤمنين بآيات الآفاق... والثاني يتقدم فيه الإضمار وهو خطاب الموقنين بآية الأنفس."
يرشد هذا التحليل الناهض إلى ضرورة الجمع في نظرته المنظومية بين قراءة الظاهر والباطن في الأحداث، وفهم العلاقة بين الكل والجزء، وإدراك المباشر والعميق في الأمور، واستيعاب المستويات المختلفة للفهم والتعامل معها.
خاتمة
يقدم التفكير المنظومي في قصة الرجل الصالح نموذجاً متكاملاً للناهض في كيفية النظر إلى الأحداث والتعامل معها. إنه نموذج يجمع بين العلم والصبر، ويربط بين الظاهر والباطن، ويتجاوز ردود الفعل المباشرة إلى العمل المؤسس على رؤية شاملة.
الأهم من ذلك أن القصة تؤكد أن هذا التفكير قابل للتطوير والترقي، وأن تفاوت مستوياته بين الناس أمر طبيعي يستدعي الصبر والحكمة في التعامل. فالناهض مدعو إلى السعي الدائم لتطوير تفكيره المنظومي، مع تفهم تفاوت مستويات الفهم عند الآخرين، والصبر على تدرج نضجهم في إدراك الصورة الأكبر والأشمل.
كتب حسان الحميني، والله الموفق.