يشكل النقد الذاتي حجر الزاوية في أي مشروع نهضوي حقيقي، إذ لا يمكن تصور نهضة حقيقية دون القدرة على المراجعة المنهجية للذات وتصحيح المسار. وفي هذا السياق، تقدم قصة يونس عليه السلام في سورة الأنبياء - (وَذَا اَ۬لنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِباٗ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَاد۪يٰ فِے اِ۬لظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبْحَٰنَكَ إِنِّے كُنتُ مِنَ اَ۬لظَّٰلِمِينَۖ) [الأنبياء: 86]،- نموذجاً فريداً في منهجية النقد الذاتي، يجمع بين عمق التشخيص ودقة العلاج. إن تأمل هذه القصة القرآنية يكشف عن قواعد منهجية راسخة في النقد الذاتي، تصلح أن تكون أساساً لمشروع نهضوي شامل، يتجاوز حالة الركود والتخلف نحو آفاق التقدم والازدهار.
في مفهوم الظلم: تأسيس نظري
يمثل التحديد الدقيق لمفهوم الظلم نقطة الانطلاق في بناء منهجية النقد الذاتي. عرفه الراغب الأصفهاني بقوله: "والظُّلْمُ عند أهل اللّغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به، إمّا بنقصان أو بزيادة، وإمّا بعدول عن وقته أو مكانه." هذا التعريف يؤسس لفهم مركب للظلم، حيث يتجلى في صور متعددة: فقد يكون بالنقصان عن الحد المطلوب فيحدث التقصير المخل بالغاية، أو بالزيادة عن الحد فتحدث المجاوزة المفسدة للمقصود، أو بالانحراف عن التوقيت المناسب فيقع الخلل في التنزيل الزماني، أو بالخروج عن المكان الصحيح فيحدث الخلل في التنزيل المكاني.
تشريح الظلم الذاتي : قراءة في التفاسير
البعد المنهجي: قراءة ابن عاشور
يقدم ابن عاشور تشريحاً دقيقاً لطبيعة الظلم الذاتي في قوله: "وأما نداؤه ربه فذلك توبة صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده." هذا التحليل يكشف عن بنية مركبة للخلل الذاتي، حيث يتجلى في ثلاثة مستويات متداخلة: الأول هو التقصير الذي يمثل نقصاً في الأداء عن المستوى المطلوب، والثاني هو العجلة التي تمثل خللاً في تقدير التوقيت المناسب للفعل، والثالث هو خطأ الاجتهاد الذي يمثل خللاً في تقدير الموقف وتقييمه. هذه المستويات الثلاثة تشكل معاً منظومة متكاملة في فهم طبيعة الخلل الذاتي وآليات تصحيحه.
البعد العقدي: تحليل الآلوسي
يؤسس الآلوسي لبعد عقدي عميق في فهم الظلم الذاتي في قوله: "سبحانك أي أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يعجزك شيء أو أن يكون ابتلائي بهذا من غير سبب من جهتي." هذا التحليل يكشف عن منظومة متكاملة في الوعي التصحيحي، تبدأ بإدراك القدرة الإلهية المطلقة، وتمر بفهم منظومة الأسباب والنتائج، وتنتهي بتحمل المسؤولية الذاتية الكاملة عن الخلل. هذا البعد العقدي يؤسس لمنهجية تصحيحية تجمع بين الوعي العميق والعمل الواقعي، متجاوزة بذلك الفهم السطحي الذي يكتفي بالإصلاح الظاهري دون معالجة الجذور العميقة للخلل.
البعد التكاملي : رؤية البقاعي والماتريدي
يقدم البقاعي رؤية تكاملية في قوله: "ولما نزهه عن الشريك عم فقال : { سبحانك } أي تنزهت عن كل نقص ، فلا يقدر على الإنجاء من مثل ما أنا فيه غيرك" ويعزز الماتريدي هذا الفهم التكاملي بقوله: "فقال: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } وحد ربه، ونزهه عن جميع ما قيل فيه، ثم اعترف بزلته وذنبه، فقال: { إني كنت من الظالمين }." هذه الرؤية تؤسس لمنهجية تصحيحية شاملة تجمع بين تنزيه الله عن كل نقص، ونسبة القصور للذات بشجاعة ووضوح، مع إدراك عميق لحدود القدرة البشرية. هذا الفهم التكاملي يتجاوز النظرة الجزئية التي قد تركز على جانب دون آخر، مؤسساً لمنهج إصلاحي شامل يراعي جميع أبعاد المشكلة وحلولها.
منهجية التصحيح: من النقد إلى النهضة
تأسيس النقد كسنة مستمرة
يؤصل البيضاوي لمفهوم النقد المستمر في قوله: "إني كنت من الظالمين لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة. وعن النبي عليه الصلاة والسلام 'ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له'." هذا التأصيل يحول النقد الذاتي من مجرد موقف عارض إلى عملية مستمرة، ومن مجرد استجابة للأزمات إلى منهج دائم للتطوير. بهذا يصبح النقد الذاتي طريقاً مستمراً للتجاوز والارتقاء، يمارسه الفرد والمجتمع بشكل منهجي ومنتظم.
آليات التصحيح
تتكامل عملية التصحيح في ثلاثة مستويات متداخلة ومترابطة. على المستوى المعرفي، يتم التركيز على تصحيح التصورات والمفاهيم، وفهم العلاقات السببية بين الظواهر، مع إدراك عميق لأهمية المنهجية المتأنية في التفكير والعمل. وعلى المستوى السلوكي، يتم العمل على تجاوز نمط العجلة والارتجال، مع الالتزام بمنهجية سليمة في العمل، والتأني في اتخاذ القرارات المصيرية. أما على المستوى التغييري، فيتم تأسيس التغيير على وعي عميق بطبيعة المشكلات وحلولها، مع الربط الدقيق بين العمل والنتائج، والصبر على مراحل التغيير المختلفة.
نحو منهجية نهضوية متكاملة
إن استخلاص منهجية النقد الذاتي من قصة يونس عليه السلام يقدم نموذجاً متكاملاً للخروج من ظلمات التخلف نحو آفاق النهضة. هذه المنهجية، بما تتضمنه من وعي عميق بأشكال الخلل وأنماطه، وفهم دقيق لآليات التصحيح، والتزام بالمراجعة المستمرة والتطوير الدائم، تشكل أساساً متيناً لمشروع نهضوي شامل. إنها تحول النقد الذاتي من مجرد أداة للتعامل مع الأزمات إلى منهج حياة ومنطلق نهضة، يمكن من خلاله تجاوز حالة التخلف والانطلاق نحو آفاق التقدم والازدهار.
كتب حسان الحميني.
والله الموفق