تعد الأحكام الذهنية المسبقة من أخطر ما يفسد المجتمعات، لأنها تضعف القدرة على التقييم الموضوعي والتفاعل الإيجابي بين الأفراد والجماعات. حين تتحول هذه الأحكام إلى تصورات جماعية تتبناها وسائل الإعلام، وتغذيها مراكز البحوث ومؤسسات القوة الناعمة، تصبح أكثر تأثيرًا وضررًا. وفي العصر الحديث، تبرز صورة المسلم والإسلامي كأحد أبرز ضحايا هذا التشويه المنهجي.
الإعلام وأسطورة الإسلاميين
في ظل تفوق الغرب في الإعلام وصناعة الرأي العام، استُثمرت غريزة الفضول البشري لإعادة تشكيل صورة المسلم في المخيلة الجمعية العالمية. عبر السينما والدراما والمسرح والصحافة، تم تقديم الإسلام والمسلمين كمتوحشين وبرابرة، بعيدين عن المدنية والحداثة. هذا الجهد لم يكن عشوائيًا، بل كان مدعومًا بمراكز استخباراتية واستشراقية تعمل على صياغة محتوى يرسخ هذه الصورة.
لم يقف الأمر عند الإعلام المرئي فقط، بل امتد إلى دور النشر التي اختارت فصولاً ومختصرات محددة من كتب التراث الإسلامي وأخرجتها من سياقها العام. هذه النصوص، التي كانت جزءًا من مجلدات ضخمة لا تُفهم إلا ضمن إطارها الكامل، وُضعت تحت الضوء لتبدو وكأنها تمثل الإسلام بأكمله. تمت طباعة هذه الأعمال بأعداد هائلة وبأسعار زهيدة، لتصل إلى أكبر عدد ممكن من القراء، مما عزز الصورة السلبية للإسلام والمسلمين.
الغزو الفكري والشذوذ عن القاعدة
لكن الإنصاف يقتضي أن نميز بين الشاذ والقواعد. في كل مجتمع توجد نماذج سلبية، لكن استخدامها كأساس للحكم على أمة بأكملها هو خداع سقط فيه الكثيرون بسبب البروباغندا الغربية والدعاية السلطوية العربية. الأغلبية الساحقة من المسلمين يعيشون حياة سوية ويقدمون نموذجًا حضاريًا مغايرًا تمامًا للصورة التي تُروج عنها.
هذا النموذج الإيجابي لا يزال يظهر رغم المحاولات الحثيثة لتغييبه. التجارب الناجحة التي قدمها المسلمون في بعض المناطق، مثل الشام، أثبتت أن الإسلام قادر على تقديم نموذج حضاري متكامل يسير على الأرض. هذه النجاحات أذهلت العالم وبدأت تكسر الصور النمطية التي تم غرسها لسنوات.
الطريق إلى التصحيح
لتصحيح هذه الصور الذهنية، نحتاج إلى تجارب عملية ناجحة تنطلق من مجتمعات صغيرة وتكبر تدريجيًا. كما كان الفتح الإسلامي يبدأ بقرية أو مدينة قبل أن يتوسع ليشمل أمة بأكملها، فإن إعادة بناء الصورة تحتاج إلى نجاحات ملموسة في القرى والمدن قبل الانتقال إلى مستوى الدول.
النموذج الإسلامي في المدينة المنورة كان مثالاً عمليًا على ذلك. ورغم صعوبة مكة، نجح المسلمون في تأسيس قاعدة حضارية في المدينة أثرت لاحقًا على العالم بأسره. هذا المنهج يمكن استعادته اليوم من خلال التركيز على بناء مجتمع واعٍ ومتعلم ومتوازن يعكس القيم الحقيقية للإسلام.
الختام
إن الأحكام المسبقة، مهما كانت قوية، لا تصمد أمام الحقائق والتجارب العملية. العالم اليوم بحاجة إلى رؤية الإسلام من خلال عدسة الواقع، وليس من خلال الروايات المشوهة. ومع كل تجربة ناجحة، ستتساقط الأكاذيب، ويُعاد بناء صورة المسلمين كحملة حضارة وقيم. الفتح ليس بالسيف فقط، بل بالعلم والفكر والعمل الدؤوب على تقديم نموذج يُلهم البشرية.
د.سامر بن الجنيد القدس