مدخل إلى المنهج القرآني
في خضم الحديث عن النهضة والعمران، وفي سعي الناهض الدؤوب نحو البناء والتقدم، تبرز آية قرآنية كريمة تؤسس منهجًا متكاملًا في التعامل مع المعرفة والمعلومات. يقول الله تعالى في محكم تنزيله: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌۖ اِنَّ اَ۬لسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولاٗۖ) (الإسراء،36) . تضع هذه الآية الكريمة حجر الأساس لمنهجية علمية وأخلاقية في بناء المعرفة وتداولها، وتؤسس لبناء مجتمع قائم على التثبت والتحقق.
عمق الدلالة اللغوية
من دقائق الإعجاز القرآني اختيار كلمة "القفو" تحديدًا في هذا السياق. فقد كشف الإمام الجصاص عن عمق دلالة هذه الكلمة في اللغة العربية بقوله: "القَفْوُ اتّباع الأثر من غير بصيرة ولا علم بما يصير إليه، ومنه القَافَةُ؛ وكانت العرب فيها من يقتاف الأثر وفيها من يقتاف النسب، وقد كان هذا الاسم موضوعًا عندهم لما يخبر به الإنسان عن غير حقيقة". يكشف هذا التأصيل اللغوي عن خطورة الاتباع الأعمى للمعلومات دون تثبت، ويؤسس لضرورة التحقق والتدقيق في كل ما يُنقل أو يُتداول.
منظومة المعرفة المتكاملة
في تحليل الإمام الماتريدي لهذه الآية، نجده يكشف عن منظومة متكاملة للمعرفة بقوله: "ويحتمل قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد} أي {ولا تقف ما ليس لك به علم} بأسباب العلم، وهو ما ذُكر من السمع والبصر". يكشف هذا التحليل العميق عن تكامل مداخل المعرفة الإنسانية: السمع الذي يمثل قناة استقبال المعلومات المنقولة والموروثة، والبصر الذي يمثل المشاهدة والتجربة المباشرة، والفؤاد الذي يمثل العقل المحلل والمستنتج. وبهذا التكامل تتحقق المعرفة الصحيحة المبنية على أسس متينة.
التثبت والمسؤولية الاجتماعية
يقدم الإمام الطبري رؤية عميقة للبعد الاجتماعي لهذا المنهج بقوله: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به، فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم بغير الحقّ". يكشف هذا الفهم العميق عن أهمية هذا المنهج في حماية النسيج المجتمعي من التفكك الذي قد تسببه الشائعات والأخبار غير الموثقة. فالمجتمع الذي يقوم على التثبت والتحقق هو مجتمع قوي متماسك، تسوده الثقة المتبادلة بين أفراده، ويتأسس فيه بناء المعرفة على قواعد راسخة من الدقة والمصداقية.
أعمال القلوب ومسؤولية القيادة
تتضح أهمية هذا المنهج بشكل أكبر في سياق مسؤولية القيادة والتمكين. يقدم الإمام الغزالي تحليلًا عميقًا بقوله: "دل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه... والحق عندنا في هذه المسألة لا يوقف عليه ما لم تقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح". يتناغم هذا التحليل مع المبدأ الراسخ "تفقهوا قبل أن تسودوا"، ويؤكد أن مسؤولية القيادة تتطلب مستوىً أعلى من التثبت والتحقق، لأن القرارات المبنية على معلومات غير موثقة تكون آثارها أشد وأخطر على المجتمع بأكمله.
منهجية التوثيق والإسناد
يضع ابن عاشور اللمسات النهائية في هذا البناء المنهجي المتكامل بقوله: "فموقع الجملة موقع تعليل، أي أنك أيها الإنسان تُسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك بأن مراجع القفو المنهي عنه إلى نسبة لسمع أو بصر أو عقل في المسموعات والمبصرات والمعتقدات". يؤسس هذا التأصيل الدقيق لمنهجية شاملة في التوثيق والإسناد، تشمل كل ما يتلقاه الإنسان من معلومات، سواء كانت مسموعة أم مشاهدة أم مستنتجة. وبهذا يتكامل بناء المعرفة على أسس راسخة من التوثيق والتحقق.
التثبت في عصر المعلومات
تتجلى أهمية المنهج القرآني بوضوح في عصرنا الحالي، مع تعدد مصادر المعلومات وتسارع وتيرة تداولها. فثورة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وظهور تقنيات متطورة في تزييف المعلومات والأخبار، تزيد من الحاجة إلى منهج رصين للتثبت والتحقق. ويقدم المنهج القرآني الأساس المتين لبناء مجتمع المعرفة القائم على العلم والتثبت والمسؤولية.
نحو نهضة قائمة على التثبت
إن النهضة الحقيقية والعمران الصحيح لا يمكن أن يقوما إلا على أساس متين من المعرفة الموثقة والمعلومات المتثبت منها. يؤسس المنهج القرآني في هذه الآية الكريمة لمنظومة متكاملة تجمع بين دقة التثبت، ومسؤولية النقل، وأخلاقيات التعامل مع المعلومات. إنه منهج متكامل يصلح لكل زمان ومكان، وتزداد أهميته مع تعقد الحياة المعاصرة وتشابك قضاياها. وفي هذا المنهج ما يكفي لبناء نهضة حقيقية تقوم على أسس راسخة من العلم والمعرفة والتثبت.
كتب حسان الحميني والله الموفق.