تأسيس وتأصيل
في خضم الآيات الكريمة من سورة الأنعام، يطالعنا قول الله تعالى: {قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِۦۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَاۖ وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٖۖ} [الأنعام: 104]. تؤسس هذه الآية الكريمة لمنهج متكامل في بناء الإنسان وتشكيل وعيه وإدراكه للوجود.
في ماهية البصائر
يقدم ابن عاشور رؤية دقيقة للبصيرة في قوله: "وبصائر جمع بصيرة، والبصيرة: العقل الّذي تظهر به المعاني والحقائق، كما أنّ البصر إدراك العين الّذي تتجلّى به الأجسام، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها. وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم، شُبّه بمجيء شيء كان غائباً". هذا التعريف يؤسس لفهم عميق للبصيرة كأداة إدراك معنوي توازي البصر في إدراكه الحسي.
ويضيف ابن عطية بُعداً عملياً في قوله: "و«البصائر» جمع بصيرة وهي ما يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها، بالاعتبار، فكأنه قال قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه، والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين، والبصيرة أيضاً هي المعتقد المحصل". وهذا يكشف عن دور البصائر في عملية التحصيل العقلي والاعتبار.
ويأتي المراغي ليوسع دائرة المفهوم في تعريفه الشامل: "البصائر: واحدها بصيرة، ولها عدة معان: منها عقيدة القلب، والمعرفة الثابتة باليقين، والعبرة، والشاهد المثبت للأمر، والحجة، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية". هذا التعدد في المعاني يكشف عن شمولية دور البصائر في تشكيل الوعي الإنساني.
البصائر: هبة ربانية وأنوار قلبية
يفتح البقاعي أفقاً جديداً في فهم طبيعة البصائر بقوله: "بصائر أي أنوار هي لقلوبكم بمنزلة الضياء المحسوس لعيونكم من ربكم أي المحسن إليكم بكل إحسان، فلا إحسان أصلاً لغيره عندكم، فاصعدوا عن النظر بالأبصار إلى الاعتبار بالبصائر". هذا التشبيه البديع يكشف عن طبيعة البصائر كهبة ربانية تنير القلوب كما ينير الضوء العيون، ويؤسس لمنهجية في الارتقاء من المحسوس إلى المعقول.
منظومة متكاملة للتربية والنهضة
يقدم المراغي تصوراً شاملاً لمنظومة التربية الإلهية في قوله: "قد جاءكم في هذه الآيات البينات بصائر من الحجج الكونية البراهين العقلية، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية التي عليها مدار سعادتكم في دنياكم وآخرتكم، تفضل بها عليكم ربكم الذي خلقكم وسواكم، وربى أجسادكم، وأكمل مشاعركم وقواكم، كما ربى أرواحكم، وهذب نفوسكم، ومحّص بها عقولكم، حتى تصل على منتهى ما تسمو إليه النفوس البشرية من الكمال".
هذا النص يكشف عن منظومة تربوية متكاملة تشمل:
- - تربية الأجساد وإكمال المشاعر
- - تنمية القوى وتربية الأرواح
- - تهذيب النفوس وتمحيص العقول
- - الوصول إلى الكمال البشري المنشود
المناظير المعرفية والبصائر: تكامل وتفاعل
تتلاقى البصائر مع مفهوم المناظير المعرفية في تشكيل رؤية متكاملة للوجود. فكما يتحدث د. جاسم سلطان عن المناظير التي تساعد العقل على اعتقال المعرفة عن الوجود المحيط والتفاعل مع العوالم الثلاثة - الأفكار والأشخاص والأشياء - تأتي البصائر لتقدم الأدوات المعرفية والروحية لهذا التفاعل.
نحو تفعيل البصائر في النهضة المعاصرة
إن حاجة الناهض إلى البصائر تتجلى في أمرين أساسيين:
1. تجديد العزم والهمة
2. الانتقال من حالة القعود إلى حالة النهضة والعمران
هذا يتطلب فهماً عميقاً لما أشار إليه البقاعي من الارتقاء من "النظر بالأبصار إلى الاعتبار بالبصائر"، وما أكده المراغي من الوصول إلى "منتهى ما تسمو إليه النفوس البشرية من الكمال".
إن المتأمل في مفهوم البصائر كما جاء في القرآن وشرحه المفسرون يدرك أننا أمام منهج رباني متكامل للنهضة والعمران. فالبصائر ليست مجرد أدوات معرفية، بل هي منارات هداية ومفاتيح نهضة، متى أُحسن فهمها وتفعيلها في واقع الأمة. وإن الطريق إلى النهضة المنشودة يبدأ من إحياء هذه البصائر في نفوسنا، وتفعيلها في واقعنا، لنعبر بها من حال القعود إلى حال النهوض والعمران.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.