رباب:
أبحث عن ضبط ميزان علاقة المسلم بالآخر (على دينه / على غير دينه).
توصلت إلى ميزان، أرجو أن تصححه لي.
المعلم:
تفضلي.
رباب :
نبدأ بميزان من هم على غير ديننا، أي أهل الكتاب. نعاملهم بخلق حسن متمثل بقيمتي "القسط والبر" إذا لم يكونوا محاربين لنا :
"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة: 8)
لكن يجب التنبه إلى أن هناك فرقًا بين "البر والقسط"، وبين "المحبة والمودة والمصادقة"، لقوله تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (المائدة: 51)
وقوله تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" (آل عمران: 118)
أما ميزان العلاقة مع المسلم، فنصعد خطوة. نعامله بقلوبنا، فيمتزج البر والقسط بالمودة القلبية. عندما يتدخل القلب في صياغة العلاقة مع الآخر، هنا قد نتجاوز الإساءة وندفع بالمعروف ونقدم النصح ونتعاون على البر والتقوى. بمعنى آخر، نتفاعل مع المسلم تفاعلًا على مستوى أعمق من التفاعل مع الكتابي.
ولكن يبقى الغلاف الكبير الحاوي لجميع أنواع العلاقات تحكمه قيمتا "الرحمة والإحسان".
بالنتيجة، الميزان النهائي يكون:
قيم الخلق الضابطة هي (رحمة وإحسان)، وتتباين التفاصيل العملية:
• التعامل مع المسلم: مودة ورحمة.
• التعامل مع غير المسلم الصديق: قسط وبر.
هل فهمي صحيح أم أن هناك مبالغة قليلاً ولا داعي للتخصيص؟
المعلم:
ضيقتِ واسعًا، فهل مشروع الإسلام مصمم لثنائية "كتابي / مسلم"؟
رباب:
لا، بل هو مشروع عالمي إنساني.
المعلم:
ثم هل بر الوالدين المشركين لا يحوي علاقة قلبية فطرية؟ هل الزوجة الكتابية لا يودها زوجها ولا أولادها؟
رباب:
فهمت وجهة نظرك، ولكن في القرآن هناك تفصيل وتخصيص للقيم، فروق بين البر والقسط والمودة، أم برأيك كلها تحمل نفس المقاصد؟
المعلم:
الناس ثلاثة مستويات بحسب الفطرة الربانية:
• أناس نبغضهم بسبب أخلاقهم وننفر منهم.
• أناس نحبهم بسبب أخلاقهم وننجذب لهم.
• أناس لا نعرفهم فحكمنا مؤجل.
ويأتي الدين كعنصر في بيئة معينة وظرف معين ليتنزل وفق مسطرتين:
• مسطرة تجيب عن إشكالية في مجتمع التنزيل.
• مسطرة تجيب عن إشكاليات مجتمع التأويل.
فإشكاليات مجتمع التنزيل هي تداخل المعسكرات بين المشركين والمؤمنين واليهود بشكل خاص، وعن بعد النصارى. وهذا جعل العلاقة السابقة للإسلام، التي تشمل المصاهرة والجوار والمشاركة المالية والسياسية، مشتبكة.
ومع نشوء الصراع وتحوله إلى "صراع وجود" احتاج الأمر إلى فكرة الولاء والبراء، حتى لا يتم تسريب المعلومات بسبب العواطف، فانعكس هذا على النص. أما أصل العلاقة بالجميع فهي:
• على المستوى الإنساني العام "القسط والرحمة".
• على المستوى الإنساني بالجوار "البر والقسط".
أما أصل العلاقة بالمسلم، كما هي بين سائر أهل الأديان، أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه.
لا يمكن "صناعة نسق" دون رؤية النصوص مجتمعة في ذات الموضوع، ثم رؤية النسق الكلي الحاكم لكل القرآن.
• رؤية واقع التنزيل.
• رؤية واقع التأويل.
• استدعاء المقاصد العليا.
• رؤية الاتساق الأخلاقي الوجداني.
• رؤية الاتساق المنطقي.
ومع ذلك يبقى التأويل صعبًا دون وجود "صاحب الرسالة"، ولكن الأمر متعلق ببذل الوسع.
رباب:
اختلف الميزان تمامًا وكليًا الآن. ما الفرق بين البر والإحسان للوالدين؟ هل معنى البر هو التوسع في الإحسان؟
المعلم:
ليس فقط التوسع في الإحسان، وإنما التوسع والزيادة في أعمال الخير كافة، كما في قوله: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، فلا يكفي مجرد الإنفاق وإنما الإنفاق من أفضل ما نملك حتى نصل إلى مرتبة البر.
رباب:
هناك أمر بوجوب بر الوالدين، وهناك أمر بوجوب بر أهل الكتاب؟ وهناك أمر للمسلمين بالتعاون على البر؟
يبدو لي أن القيمة الأساسية الضابطة لكل أنواع العلاقات هي "البر"، أي المبالغة في تقديم الخير، سواء للقريب أو الغريب، مسلمًا كان أم غير مسلم.
ثم يتفرع من "جذع شجرة البر" هذه بعض القيم الخاصة بطبيعة كل دائرة من دوائر العلاقات، فتبدو كأغصان تشبك وتضبط العلاقات بين أفراد المجتمع، كل حسب دائرته.
المعلم:
البر أحسن "الخلق"، والإحسان هو "درجات"، والمطلوب السعي للدرجات العلى في كل مجال (أَيّكم أحسن عملاً).
رباب:
جميل جدًا، والرحمة هي من تدفعنا لتحسين جودة أفعالنا الخيرة. كلما زادت الرحمة في قلوبنا تجاه الآخر، زاد إحساننا في بره.
المعلم:
صحيح، "الرحمة" هي منطلق الفعل وروحه.