استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقامات الثلاثة (منهج قرآني للنهوض)


يقدم القرآن الكريم في سورة النحل منهجاً متكاملاً لنهضة الأمة وحركتها، حيث يقول تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِۖ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِے ضَيْقٖ مِّمَّا يَمْكُرُونَۖ (127) إِنَّ اَ۬للَّهَ مَعَ اَ۬لذِينَ اَ۪تَّقَواْ وَّالذِينَ هُم مُّحْسِنُونَۖ (128)}. تتجلى في هاتين الآيتين ثلاثة مقامات تشكل أركان النهضة: الصبر، والتقوى، والإحسان. ويكمن في تتابع هذه المقامات وترابطها سرٌّ عميق؛ إذ يؤسس الصبر القاعدة الصلبة، وتبني التقوى الحصانة الذاتية، ويرتقي الإحسان بالأداء إلى أعلى درجاته.

معادلة التكليف والتعريف

يبين الإمام القشيري -رحمه الله- جوهر هذا المنهج بقوله: "'واصبر' تكليف، 'وما صبرك إلا بالله' تعريف. 'واصبر' تحققٌ بالعبودية، 'وما صبرك إلا بالله' إخبارٌ عن الربوبية... 'ولا تحزن عليهم'... فمَنْ أَسْقَطْنا قَدْرَه فاستَصْغِر أَمْرَه... فإِنَّا ضَمنَّا كِفايتَك، وألا نُشْمِتهم بك، وألا نجعلَ لهم سبيلاً إليك". إنها معادلة إلهية دقيقة، فكل تكليف يقابله تعريف، وكل عبودية تقابلها ربوبية. فحين يُكلَّف العبد بالصبر، يُعَرَّف بمصدر القوة اللازمة له، وحين يُطالَب بالتقوى والإحسان، يُبشَّر بالمعية الإلهية التي تعينه على تحقيقهما.

تحديات الطريق: صراع متجدد

يشير البقاعي إلى طبيعة المواجهة في تفسير قوله تعالى: "{مما يمكرون}"، موضحاً استمرارية المكر من خلال صيغة المضارع. ويرسم التفسير الأمثل خريطة التحدي بقوله: "فمهما كانت دسائس العدو العنيد واسعة ودقيقة وخطرة، فلا ينبغي لك ترك الميدان؛ لظنك أنك قد وقعت في زاوية ضيقة وحصار محكم، بل لا بد من التوكل على الله، وسوف تفشل كل الدسائس وتبطل مفعولها بقوة الإيمان والثبات والمثابرة والعقل والحكمة".

مواجهة التحديات في المقامات الثلاثة

يواجه صاحب الصبر محاولات الإنهاك المستمر والضغط النفسي المتواصل، في سعيٍ لتيئيسه من النتائج وكسر إرادته. ويواجه صاحب التقوى فتناً متنوعة من شهوات وشبهات، إضافة إلى محاولات متكررة لتليين المواقف والانحراف عن المسار. بينما يواجه صاحب الإحسان إغراءات التساهل في المعايير وضغوط خفض سقف الأداء والاكتفاء بالحد الأدنى.

القوة النفسية في مسيرة النهوض

يوضح سيد قطب معالم القوة النفسية بقوله: "ويوصي القرآن الرسول (صلى الله عليه وسلم) -وهي وصية لكل داعية من بعده- ألا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون، فإنما عليه واجبه يؤديه، والهدى والضلال بيد الله؛ وألا يضيق صدره بمكرهم، فإنما هو داعية لله، فالله حافظه من المكر والكيد، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئاً لنفسه".

ثمار المقامات في الشخصية

يغرس الصبر في النفس قدرة فريدة على التحمل ومناعة نفسية قوية، ويعمق الثقة بالوعد الإلهي. أما التقوى فتنمي البصيرة النافذة والحساسية الأخلاقية العالية، وتقوي الضبط الذاتي والوعي بالمسؤولية. ويرتقي الإحسان بصاحبه نحو الدقة في الأداء والجمال في العمل، مع تعزيز روح المبادرة والشعور بالمراقبة الإلهية.

الضمان الإلهي: تتويج المسيرة

يختم القشيري برسالة البشرى "فإِنَّا ضَمنَّا كِفايتَك"، وكأنها تاج يتوج رأس من جمع المقامات الثلاثة. فيتجدد المدد الإلهي مع الصبر، وتتواصل الهداية مع التقوى، ويتحقق التوفيق مع الإحسان. وفي ظل هذا التكامل تتحقق الكفاية الإلهية والنصر الموعود.

الخاتمة: تفعيل المنهج القرآني

يكشف المنهج القرآني في قوله تعالى {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ... إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} عن منظومة متكاملة للتغيير، تجمع بين عمق التأصيل وواقعية التطبيق. وكما يؤكد القشيري: "فإِنَّا ضَمنَّا كِفايتَك"، فإن هذه المنظومة محفوفة بالضمان الإلهي متى ما تحققت شروطه.

يجد المسلم المعاصر، في مواجهة تحديات عصر التحولات السريعة والتعقيدات المتزايدة، في هذه المنظومة القرآنية منهجاً متكاملاً. ويتحقق النجاح في مسيرة التغيير بالجمع بين الصبر الضامن للاستمرارية، والتقوى الحامية من الانحراف، والإحسان المحقق لجودة العمل وإتقانه.

وحين تجتمع هذه المقامات في الواقع العملي، مع الالتزام بمعاييرها ومؤشراتها التطبيقية، تتنزل المعية الإلهية والكفاية الربانية على المسيرة كلها، فيتحول الطموح إلى إنجازات ملموسة بفضل هذا المنهج الرباني المتكامل.



كتب حسان الحميني
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.