استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

إصلاح ذات البين، ضمانة النهضة وحماية المجتمع


( يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ اِ۬لَانفَالِۖ قُلِ اِ۬لَانفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِۖ فَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْۖ وَأَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّومِنِينَۖ) [1]،

المدخل القرآني: الأنفال وأولوية العلاقات

افتتح الله سبحانه وتعالى سورة الأنفال بتوجيه مباشر حول أولوية إصلاح العلاقات الاجتماعية على المكاسب المادية. وفي هذا السياق التاريخي المهم، عن أبي أمامة الباهلي قال: (سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء. يقول: على السواء"

يكشف هذا الحدث التاريخي عن حكمة إلهية عميقة في معالجة الخلافات الاجتماعية. فحتى في لحظة النصر العظيم في بدر، وفي مجتمع الصحابة الذي يمثل أرقى نموذج بشري عرفه التاريخ، ظهرت بذور الفرقة. وهذا يؤسس لفهم عميق لطبيعة المجتمعات البشرية: أن بذور الفرقة كامنة في كل مجتمع ناهض، وأن النجاح والتمكين قد يكونان من أخطر محفزات ظهورها.

 العلاقة العضوية بين الإيمان وإصلاح ذات البين

يقدم الطاهر بن عاشور في تفسيره رؤية عميقة في العلاقة بين الإيمان وإصلاح العلاقات بقوله: "فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صُوره ومظاهره، ولذلك عُقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وَجِلتْ قلوبهم}." هذا التحليل يكشف عن علاقة عضوية بين عمق الإيمان وجودة العلاقات الاجتماعية. فالإيمان الحقيقي يتجلَّى في سلوك عملي يحول الوجل القلبي إلى ممارسة اجتماعية إيجابية. المؤمن الحق هو من يتجاوز حظوظ نفسه لمصلحة الجماعة، مستحضراً رقابة الله في كل تعاملاته. وهذا يجعل من إصلاح ذات البين مؤشراً على نضج الإيمان وعمقه.

 البعد الحضاري في نظرية شبكة العلاقات 

قدم مالك بن نبي تحليلاً حضارياً عميقاً لأهمية شبكة العلاقات في المجتمع. فالمجتمع في نظره ليس مجرد تجمع عددي للأفراد، بل هو شبكة معقدة من العلاقات تربط بين هؤلاء الأفراد. قوة المجتمع وقدرتُه على الإنجاز لا تكمن في عدد أفراده أو مواردهم المادية، بل في متانة العلاقات التي تربط بينهم وقدرتهم على العمل الجماعي المنسجم. الأفكار والمشاريع النهضوية تنجح عندما تجد شبكة علاقات اجتماعية قوية تحملها وتدعمها.

 سنن العمران بين التاريخ والجغرافيا

تتجلَّى حتمية السنن الإلهية في دراسة التاريخ والجغرافيا. فالسير في الأرض أفقياً - أي دراسة التجارب المعاصرة في مختلف بقاع الأرض - والغوص في التاريخ عمودياً - أي دراسة تجارب الأقوام السابقة عبر الزمن - يكشف عن حقيقة مهمة: أن السنن الاجتماعية "غلابة" تعمل باطِّراد في كل زمان ومكان. يضرب مالك بن نبي مثالاً بليغاً بالمهندس الذي يخون في بناء الجسر، فكما أن قوانين الفيزياء لا تحابي أحداً، وأن الجسر سيسقط حتماً عاجلاً أم آجلاً، فإن التهاون في أسس البناء الاجتماعي سيؤدي حتماً إلى انهيار المشروع النهضوي. التاريخ مليء بحضارات قوية انهارت من الداخل بسبب تفكك نسيجها الاجتماعي.

 التكلفة الحضارية للصراعات البينية

تتجاوز تكلفة الصراعات البينية الخسائر المادية المباشرة لتصل إلى أعماق البنية الحضارية للمجتمع. فعلى المستوى المادي، نرى إهدارٌ للموارد وتعطيلٌ للمشاريع وتشتيتٌ للجهود. لكن الأخطر من ذلك هو التكلفة المعنوية التي تتمثل في استنزاف الطاقات النفسية وتراجع الثقة بين أفراد المجتمع. هذا يؤدي إلى تكلفة استراتيجية تتمثل في تشتت الرؤية المستقبلية وضعف القدرة على التخطيط الفعال. الأخطر من كل ذلك هو إجهاض آمال المجتمع وطموحاته النهضوية، حيث يفقد الشباب الأمل في إمكانية التغيير، وتهاجر الكفاءات بحثاً عن بيئات أكثر استقراراً، وينكسرُ المشروعُ الحضاري برمته.

 آليات التأمين الدائم للنهضة

إن حماية المشروع النهضوي تتطلب منظومة متكاملة من آليات التأمين الدائم. فاليقظة المستمرة لمداخل الفرقة ضرورية مهما علت درجات الإيمان، فحتى أفضل المجتمعات لم تكن محصنة تلقائياً من خطر الفرقة. هذا يتطلب بناء آليات مؤسسية لرصد بوادر النزاع ومعالجتها قبل استفحالها، وتأسيس ثقافة تقدم المصلحة العامة على المصالح الفردية.

 الخاتمة

إن إصلاح ذات البين ليس مجرد توجيه أخلاقي أو شعار ديني، بل هو قانون اجتماعي وضرورة حضارية. كما أن قوانين الفيزياء لا تحابي أحداً، فإن السنن الاجتماعية تعمل بنفس الحتمية والاطِّراد. المجتمع الناهض الذي يريد أن يحمي نهضته ويضمن استمرارها عليه أن يجعل من إصلاح ذات البين أولوية استراتيجية، وأن يؤسس لثقافة وآليات تحمي نسيجه الاجتماعي من التمزق. 



كتب حسان الحميني.

والله الموفق.


تعليق على المقالة من استاذ محمد بن عزة:

يا سلام، نطقتم صدقا وحقا في الموعد المناسب تماما

بارك الله فيك أستاذ حسان، إذا كانت المقالة السابقة أمس، بدأت من أعمق بعد فردي: 

من النية الداخلية،ولتطهير كل بوادر الزيغ من داخل الفرد،

فإن هذه المقالة عملت نفس الشيء بالنسبة للمجتمع:

بدأت من أطهر اجتماع بشري، وبعيد أكثر المواجهات صميمية ومصيرية في بناء المجتمع المسلم الأول، وفي وجود النبي ومع عدم انقطاع الوحي بعد!!!؟؟؟

لذا ،فإن إرسال هاتين المقالتين، خاصة وما نشر أمس من عند د. فاطمة الرفاعي، الى إخوتنا في الواقع ،أمر في غاية الأهمية 

الإجتماع المسلم التأسيسي، لن يستطيع أحد المزايدة عليه، وهو مظنة لنتعلم تواضع الإنصات المتبادل، وتقبل النصح من كبار المتخصصين مثل الدكتور جاسم، في المجالات المعرفية والإجرائية المؤثرة في عالمنا المعاصر، المعقد والمترابط وحيث ترد السنن بأسرع مما كانت عبر التاريخ، نظرا لكبر ولتداخل حجم التداخل...

وهنا لا تنفع المعارف والمناهج التقليدية،ولو الشرعية منها والصحيحة: ليس لعيب فيها بل لفارق غياب الإجتهاد وتطوير المناهج...

فالبيانات القرآنية خاصة، لا تتكشف عن مصاديقها وأسرار فقه معاصر لأحكامها التفصيلية في الواقع، إلا بتفجر مختلف التخصصات في المجتمع،وبوعي وثقافات أصيلة ومستقلة...وهو ما يحرمنا منه التفرق والتناحر،

كما أن حيازة القوة وأسبابها ومخرجاتها أيضا لن نحوزها بدويلات صغيرة تقوم فقط على حماس وحفظ شيوخها لمقررات شيوخهم، وهي كلها مكشوفة استراتيجيا واستخباراتيا وإعلاميا واقتصاديا، بادي الرأي بصغر حجمها السكاني والإبداعي والأدائي، فكيف نتناحر ونزيدها تفرقا، تلقاء غلبات مؤقتة تغرق في الإنتصار لتفاصيل وفروع ؟؟!!

في هذا الإطار نوجه الى بعضنا البعض هذه المقالات الناصحة وهذا التنبيه المتبادل الى ضرورة فتح العقل والوجدان لسعة النظر وللتعلم الجماعي لاسباب التمكين والنصر الحقيقين

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.