استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

تأملات جديدة في قوله تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"

تعد الآية 60 من سورة الأنفال من الآيات المحورية في فقه الإعداد والتمكين. وقد شاع في تفسير قوله تعالى "ما استطعتم" أنه يشير إلى حدود القدرة والإمكانات المتاحة. لكن التحليل اللغوي الدقيق وأقوال بعض المفسرين تكشف عن معنى أعمق وأشمل.

 التحليل اللغوي لمادة "طوع"

يبين الراغب الأصفهاني في مفرداته أن أصل الطوع هو الانقياد، كما في قوله تعالى: ﴿ائتيا طوعا أو كرها﴾ [فصلت:١١]. والاستطاعة مشتقة من الطوع، وفيها زيادة السين والتاء للطلب. وبهذا يتبين أن "ما استطعتم" ليست مجرد إشارة إلى القدرة، بل هي طلب لتطويع المسخرات وجعلها منقادة.

المعنى الجديد للآية

يتجلى المعنى الدقيق للآية في أنها تأمر بتطويع وتليين ما سخره الله للإنسان من قوى وموارد، حتى تنقاد له وتصبح قوة مؤثرة. وهذا يختلف عن التفسير الشائع الذي يركز على حدود القدرة والإمكانات المتاحة.

 الأبعاد العقدية للمعنى

يكشف الإمام الماتريدي عن بُعد عقدي مهم بقوله: "فأمر الله بالأسباب في الحروب، وإن كان قادرا على نصر أوليائه على عدوه بلا سبب". فالله تعالى، مع قدرته المطلقة، جعل سنته في النصر مرتبطة بتطويع الأسباب، وهذا جزء من معنى الخلافة وابتلاء الإنسان.

 عملية التطويع عند الطوسي

يضيف الطوسي بُعداً عملياً بقوله: "والاستطاعة: معنى تنطاع بها الجوارح للفعل مع انتفاء المنع". فهو يبين أن الاستطاعة عملية فعالة لتطويع المسخرات مع إزالة الموانع التي تحول دون انقيادها.

 مراتب الناس في تطويع المسخرات

يكشف القشيري عن عمق العلاقة بين القلب وقدرته على تطويع المسخرات. فالناس يتفاوتون في هذا المقام بحسب علو همتهم ومعرفتهم بربهم. فمنهم من يستمد قوته من إيمانه الراسخ بوعد الله بالنصر، وهذا مقام يجمع بين الثقة بالله والعمل بسننه. وفوق هذا المقام من تجاوز مجرد الإيمان بالوعد إلى استشعار معية الله وعلمه بحال عبده، فيستمد قوته من هذه المراقبة الدائمة. أما أعلى المقامات فهو مقام من تحقق بالمشاهدة، فصار يرى بنور الله كيف تنقاد له المسخرات بإذن مالكها الحقيقي. وكل هذه المقامات مشروطة بأن يكون القصد خالصاً لله، متجهاً نحو غاية واحدة هي إعلاء كلمته سبحانه

علاقة المعنى بخلافة الإنسان

تكشف هذه الرؤية العميقة للاستطاعة عن جوهر العلاقة بين الإنسان والكون في إطار الاستخلاف. فسجود الملائكة لآدم كان إعلاناً عن تسخير الكون للإنسان، لكن هذا التسخير لم يكن تسخيراً مباشراً. بل جعل الله تحققه مرتبطاً بطلب طوع المسخرات من مالكها الحقيقي. وبهذا يتحقق معنى العبودية في أعلى صورها، فالخليفة لا يتصرف في المسخرات تصرف المالك المستقل، ولا يقف منها موقف العاجز المستسلم، بل يسعى في تطويعها متوجهاً إلى مالكها الحقيقي، طالباً منه وحده انقيادها. وغاية هذا كله تحقيق مراد الله في عمارة الأرض وإقامة شرعه.


يتضح من هذا التحليل أن فهم "ما استطعتم" على أنه مجرد إشارة لحدود القدرة هو تبسيط لمعنى عميق. فالآية تؤسس لمنهج رباني في التعامل مع المسخرات، يقوم على طلب طواعيتها وتحويلها إلى قوة فاعلة، مع ربط ذلك كله بالغاية السامية وهي إعلاء كلمة الله.

(الاستطاعة والاستعانة : منهج النهوض الحضاري)

يكشف التأمل في العلاقة بين الاستطاعة والاستعانة عن رؤية عميقة في فهم حقيقة العلاقة بين الإنسان والكون في إطار الأمانة الكبرى. فالإنسان المؤتمن على الكون لا يقف أمام المسخرات موقف المالك المستقل، ولا موقف العاجز المستسلم، بل يقف موقف المؤتمن الذي يطلب من المؤتمِن الأعلى عونه في تطويع ما استؤمن عليه.

ومن هنا تبرز حاجتنا الماسة إلى فقه الاستطاعة في عصرنا الراهن. فهو فقه يتجاوز النظرة السطحية التي تختزل الاستطاعة في مجرد امتلاك القوة المادية، إلى فهم عميق لمراتب الاستطاعة وعلاقتها بالتمكين. فالتمكين - كما يتجلى في قصص القرآن - لا يأتي دفعة واحدة، وإنما يتنزل بحسب مراتب الاستطاعة. فكلما ارتقى المؤتمن في فقه استطاعته واستعانته، ارتقى في مراتب التمكين. ولعل في قصة ذي القرنين مثالاً حياً لهذا التدرج، إذ نجد التمكين يتنامى مع تنامي فقه الاستطاعة، من "مكنا له في الأرض" إلى "وآتيناه من كل شيء سببا"، فكان هذا التمكين ثمرة لفقه دقيق في الموازنة بين الاستعانة بالله والأخذ بالأسباب.

وتبر ز هذه العلاقة في دلالة "السين والتاء" للطلب في كلا المصطلحين. فالاستطاعة طلب للطاعة والانقياد من المسخرات، والاستعانة طلب للعون من مالك المسخرات. وتكتمل هذه المنظومة بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم، إذ به يتبين المنهج الأقوم في الموازنة بين الاستعانة والاستطاعة.

ولعل في سورة الشرح تجسيداً عملياً لهذا المنهج في النهوض الحضاري. فهي تبدأ بالعون الإلهي في شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر، ثم تؤسس لقانون التلازم بين العسر واليسر، لتختم بثنائية العمل المتواصل "فإذا فرغت فانصب" والتوجه الدائم لله "وإلى ربك فارغب". وفي "الانتصاب" للعمل ما يشير إلى الجدية والهمة العالية والشغف المتجدد في أداء الأمانة.
إن هذا الفهم العميق يحرر الإنسان من عقدة العجز ووهم الاستقلال معاً. فلا يستسلم بحجة ضعفه، ولا يغتر بقوته وعلمه. وإنما ينهض بأعباء الاستخلاف مستعيناً بربه، طالباً طاعة المسخرات، مهتدياً بنور الوحي في مسيرته نحو العمران.

وبهذا يتضح أن النهوض الحضاري المنشود لا يتحقق بالاتكال على الله وحده، ولا بالاغترار بالقوة الذاتية، وإنما يتحقق بالجمع الدقيق بين الاستعانة والاستطاعة، على نور من الهداية الربانية، وبهمة متجددة لا تعرف الكلل أو الملل. فكلما فرغ المؤتمن من عمل، انتصب لآخر، في شغف دائم بخدمة أمانة الاستخلاف.

إن هذا المنهج المتكامل في فهم العلاقة بين الاستطاعة والاستعانة، والمنضبط بالهداية إلى الصراط المستقيم، والمتجسد في الشغف المتجدد بالعمل، لهو السبيل الأقوم للنهوض الحضاري المنشود.




كتابة: حسان الحميني

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.